“إذا قتلني أقاربك فلن يبقى أي فرد من عائلتك حيا لأكثر من عامين، فسوف يقتلهم الشعب الروسي. سأُقتل، لم يعد لي وجود في هذه الحياة. صل أرجوك، وكن قويا، وفكر في عائلتك المصونة”.
(من رسالة راسبوتين لقيصر روسيا- ديسمبر 19166)
***
منذ مئة عام، وأثناء انخراط روسيا في الحرب العالمية الأولى، سيطر على حكم روسيا راهب فاسق يدعي جريجوري راسبوتين (راسبوتين تعني الفاجر بالروسية). استغل راسبوتين قدرته على شفاء الأمير الصغير ولد القيصر من مرض سيولة الدم (الهيموفيليا)، الذي كان يهدده بالنزف حتى الموت، وحاز على ثقة القصير والملكة ألكسندرا، التي قربته منها وصارت تستشيره في كل شيء تقريبا، حتى صار راسبوتين هو الحاكم الفعلي لروسيا، رغم أنه ليس من عائلة رومانوف القيصرية.
وبعد هزيمة الجيش الروسي أمام الألمان في الحرب العالمية الأولى، واجتياح وارسوا عاصمة بولندا، قام القيصر بتنحية عمه (نيقولا الأكبر) من قيادة الجيش، وتولي بنفسه قيادة المعارك وتوجه الي الخطوط الامامية وترك السلطة بيد الامبراطورة، ومن ثم راسبوتين.
كان راسبوتين معارضا للحرب، ويرى أن فيها هزيمة روسيا عسكريا، واستنزافها اقتصاديا، بعكس ضغوط داخلية بعضها من رجال دين أرثوذوكس، راغبين في حرب الخلافة العثمانية الإسلامية في البلقان!
في صيف سنة ١٩١٤م ، كتب رسبوتين رسالة إلى القيصر يحذره من الانخراط في الحرب جاء فيها:
“مرة أخرى أقو : هناك غمامة عاصفة مريعة تسري في سماء روسيا . أرى كارثة ، ظلاماً ، حزناً، ولا ضياء! إنه بحر من الدموع والدماء ! جميعهم يريدون منك الاندفاع نحو الحرب ، لكنهم لا يعلمون أن الدمار ينتظر. لا تدع المجانين ينتصرون ويدمرونك ويدمرون شعبك! وإذا هزمنا ألمانيا ، ماذا سيحدث لروسيا ؟ سنغرق جميعاً في الدماء، والكارثة ستكون كبيرة”
***
لم تتحمل العائلة المالكة أن يسيطر عليها هذا الراهب الفاجر، بعد أن سلب السلطة من أيديهم، وأساء كثيرا لسمعتها! فلقد شوهد راسبوتين كثيرا خارج حدود البلاط يحيا حياة السُكر والعربدة ، وغالبا ما يكون بصحبة العاهرات، كما ازداد عدد النساء اللواتي كن يذهبن إليه “لممارسة الرذيلة” معه من أجل التطهر من آثامهن!
وحين علم مسؤولون سياسيون كبار بهذه الشائعات كلفوا شرطة سرية بتعقبه، حتى انتهى الأمر باستدراجه إلى أحد القصور بحجة أن إحدى الأميرات تريد أن تلتقي به. وقام أحد الأمراء بالفعل بدعوة راسبوتين إلى قصره كي يتعرّف على زوجته الأميرة إيرينا، التي قيل كلام كثير عن جمالها، حتى قيل أنها كانت أجمل سيدة في سان بطرسبرج وقتها!
لم يتمالك راسبوتين نفسه، وذهب على أحر من الجمر، ممنيا نفسه بلقاء الأميرة، وهناك حاولوا اغتياله بالسم الموضوع في الكعك والخمر المقدم له، فلم ينجح الأمر، مما اضطرهم في النهاية لإطلاق الرصاص عليه!
ورغم أن كلاما كثيرا قيل حول سبب وفاته، وعن أن كثرة معاقرته الخمر قد أبطلب مفعول سم السيانيد، مما اضطر قاتليه إلى إطلاق الرصاص عليه وإلقاء جثته في النهر المتجمد، إلا أن شكوكا كثيرت حامت حول الأمر، مع اتهامات للمخابرات البريطانية باغتيال الرجل القوي، بعد ان حث القيصر على بدء مفاوضات فردية مع الألمان لإنسحاب الجيش الروسى مقابل السلام، مما يعرض بريطانيا لخسارة حليف مهم “روسيا” في هذه الحرب، لذلك قامت المخابرات بقتله!
وقد أثبتت صور التقطت للجثة بعد إخراجها من الماء، وظهرت بعد 80 عاما من الحادثة، أن الطلقة المستخدمة في القتل جاءت من مسدس بريطانى الصنع، لأنها تحتوى على رأس معدنى كان يٌعتبر محرماً استخدامه في روسيا في ذلك الوقت وبتوافق مع نوع من المسدسات البريطانية!
وياللعجب، فبعد 100 عام، تدعي صحيفة “ديلي ستار” البريطانية منذ أيام أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد قتل على يد المخابرات البريطانية MI6، في أروقة الكرملين، بعد ضم شبه جزيرة القرم في العام 2014، وتم استبداله بهدوء في انقلاب سري في عام 2015 عندما اختفى في ظروف غامضة ولم يظهر علناً لمدة 10 ايام بين 5 مارس/آذار و15 مارس/آذار من العام 2015!
وأصحاب هذه النظرية، بحسب الصحيفة، يستدلون بوجود تغييرات جذرية في مظهر بوتين، وتراجع ملحوظ في قدرته على تحدث الألمانية، إلى درجة استعانته بمترجم وسماعة أذن للترجمة في لقاء قمة مشترك مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، وكذلك طلاقه المفاجئ من زوجته في نفس العام.
***
على كل؛ فإن هذا يقودنا للحديث عن الصراع الروسي الغربي، وهو الصراع الأبرز خلال القرن الماض،. ويذكرنا بأن بريطانيا كانت العقل المدبر الحقيقي للمعسكر الغربي – في هذه المعركة – ضد الشيوعية ، حتى مع تراجع قوتها العسكرية ونفوذها السياسي لصالح الأمريكان.
وإذا كان المعسكر السوفييتي قد سقط في نهاية القرن الماضي، فهذا لأن الفكرة التي قام عليها هذا المعسكر في بداية هذا القرن قد سقطت في عيون أنصاره!
وحين سئل الدكتور عبدالوهاب المسيري عن إمكانية نجاح الانقلاب العسكري الذي حدث ضد جورباتشوف منعا لانهيار الاتحاد السوفييتي؛ أجاب أنه انقلاب سيفشل في غضون أيام، لأن الجندي السوفييتي داخل الدبابة الروسية صار يفكر في الهامبورجر الأمريكاني، وفتيات البلاي بوي الغربيات! وبالفعل، فشل الانقلاب في غضون أيام، وتفكك الاتحاد، ولم تنشر تصريحات المسيري رحمه الله (رقم 2 في المصادر)
المعركة إذن أن تسقط الحضارة في عيون أنصارها، لا أن تسقط أمام خصومها! وبهذا المعنى، ألا يمكننا أن نقول أن المعسكر الغربي سقط في عيون أنصاره هو أيضا، لأن أفكاره التي قام عليها سقطت في عيونهم؟؟ وإليكم الدليل!
لقد رفع الغرب شعارات الحرية والديمقراطية والمساواة واحترام حقوق الإنسان، ثم رأينا هذه الشعارات تتحطم العام الماضي على يد الشرطة الفرنسية التي تجبر سيدة تحترم نفسها على التعري على شواطئ فرنسا، وعلى يد صندوق الانتخاب البريطاني الذي أخرج لندن من الاتحاد الأوربي، وفي تصريحات دونالد ترامب الرافضة للاجئين، المعادية للمسلمين، الراغبة في طردهم، حتى لو كانت فتاة حضرت مؤتمرا انتخابيا مؤيدة له، لأنها محجبة! وماذا تبقى في الغرب بعد أميركا وبريطانيا وفرنسا؟ ألمانيا التي يستعد فيها النازيون الجدد للوثوب، أم هولندا التي يترقب فيها المتطرفون لحظة الانقضاض، أم النمسا التي خسر فيها اليمين المتطرف بفارق ضئيل؟
إذا كان الاتحاد السوفيتتي قد سقط بين ليلة وضحاها، فلقد كانت عوامل سقوطه تنخر فيه كالسرطان بلا أعراض مرضية واضحة، وهو يئن في صمت، تحت أعباء نفقاته على دول الاتحاد الضعيفة المعتمدة عليه، حتى حدثت المفاجأة!
لكن الغرب يعاني الآن من سؤال هوية ضخم يجعل أنصاره في حيرة كحيرة هاملت في مسرحية شكسبير الشهيرة، أو في نفاق وتناقض يذكرنا بتناقض مستر جيكل ومستر هايد! كثيرون في الغرب يهاجمون الأفكار الرئيسية المؤسسة للحضارة الغربية، ، فاختل كما تختل مناعة الجسم وتهاجمه ظنا منها أنها تهاجم العدو! في أوربا بدأ التفكك فعلا بخروج بريطانيا، العاصمة السياسية الأبرز من الاتحاد، وفي أميركا نجد بعض الولايات الغنية، التي يستفيد منها الاتحاد الأميركي، راغبة في الانفصال، كما رأينا المطالبات بذلك في ولاية كاليفورنيا!
وكيف يكون الحال إذا ثبت صحة الاتهامات الأميركية الرسمية لروسيا بالتدخل في مسار الانتخابات لصالح ترامب؟ هل تكون روسيا قد انتقمت من الغرب الذي فكك اتحادها السوفييتي على يد جورباتشوف، بالزج بترامب إلى منصب الرئاسة ليقوم بنفس الدور؟؟
وقد نتج عن سؤال الهوية ذلك؛ هذا ارتفاع درجة حراراة المواجهات بين اليمين المتطرف والأحزاب التقليدية في كل دول الغرب تقريبا، وأثمرت هذه الحمى عن بتر عضو هام في الاتحاد الأوربي عن جسد المعسكر الغربي (بريطانيا)، مع مطالبات لأعضاء آخرين بالتداعي لهذا العضو والانفصال مثله!
فهل يسير الغرب نحو تفكك متدرج في مقابل تفكك الاتحاد السوفيتتي السريع والمفاجئ؟؟ أم أن الغرب دولة مؤسسات مقابل حكم فردي في روسيا، يمكن أن ينتهي بالتخلص من بوتين، حتى إذا كان يحكم أكبر دولة في العالم من حيث المساحة، كما سقط حكم القياصرة بعد التخلص من راسبوتين؟؟
***
(ملحوظة: بعد مقتل راسبوتين بأقل من عامين قتل جميع أفراد عائلة رومانوف القيصريةعلى يد الشعب الروسي بعد قيام الثورة البلشفية، كما توقع راسبوتين)
مصادر:
1- راسبوتين (ويكيبيديا)
https://goo.gl/AlqihV
2- دورة منهجية التعامل مع الفكر الغربي أ.د. عبد الوهاب المسيري -عام 1994 ج2 (يوتيوب)
https://goo.gl/m347VM