استطاع الروس أن يمدوا نفوذهم في سوريا، لا لأنهم قصفوا المدن وقتلوا المدنيين، فالأمريكيون يفعلون ذلك منذ سنوات في سوريا والعراق، وحروب العصابات لا تحسم من الجو في العادة، إنما غلب الروس على البلاد لأنهم وحدهم من قرر من أن يتفق مع كل من الأتراك والإيرانيين.
ورغم كونهما الطرفين الإقليميين الكبيرين الأشد انخراطاً في الحرب الأهلية السورية فإن التوفيق بين تركيا وإيران كان ممكنا طوال الوقت، لأن الحدود الدنيا من مصالحهما لا تتناقض. فالأولى همها الأكراد واللاجئون، والثانية همها خطوط الإمداد بينها وبين جنوب لبنان ومنع تمدد الحرب إلى جبهات أقرب لحدودها في العراق.
وقد أدرك الروس ذلك ووجدوا طريقا لكل من الأتراك والإيرانيين. فأما الأتراك فهم يكتفون بضمانة ألا تقام دولة كردية في سوريا والعراق، وهم يريدون أن يبدوا للأمريكيين أنهم ليسوا بلا بدائل. فإن كان الأمريكيون تصرفوا بأنانية مهملين المصالح القومية التركية حين اقتربوا من الأكراد أكثر مما ينبغي، فإن الأتراك يستطيعون أيضاً أن يهملوا المصالح الأمريكية إلى حد ما ويتقاربوا مع روسيا أكثر من المتوقع. وللحكومة التركية الحالية أيضاً شكوكها بشأن ضلوع الأمريكيين في محاولة الانقلاب الأخيرة ضدها. أما إيران فإنها تتفق مع تركيا في رفض قيام كيان كردي، أما رغبتها في أن تبقى خطوط الإمداد بينها وبين جنوب لبنان سالكة فإنها لا تمس المصالح التركية بأي ضرر.
وعليه فقد أستطاع الروس أن يصلوا إلى صفقة، وإن تكن مؤقتة وهشة، تبقى بمقتضاها خطوط الإمداد إلى لبنان لإيران، والمسألة الكردية تبقى لتركيا، وسائر الشام يترك لموسكو.
وقد كنا في ٢٠١٢ نطالب الحكومة المصرية، برئاسة محمد مرسي آنذاك، بالاتفاق مع كل من إيران وتركيا لتسوية الحرب السورية، ولقطع الطريق على التدخل الأجنبي، لأن الحروب الأهلية لا تنتهي عادة إلا بتوافق إقليمي، أو تدخل خارجي أو بالاثنين معاً، ولأن مصر كانت مؤهلة نظرياً، بعد الثورة وقبل الانقلاب، لتكون قوة وسطاً بين إيران وتركيا، ولتكون وسيطاً مأموناً لكل أطراف الحرب في سوريا.
وقد كان الاقتراح المطروح يتلخص في أن تقوم القاهرة بالدعوة إلى عقد مؤتمر قمة إقليمي، يدعى إليه الأتراك والإيرانيون لتنسيق المواقف بشأن الحرب الأهلية السورية. ثم يصار في هذا المؤتمر إلى اقتراح إرسال قوة حفظ سلام إقليمية مشتركة. تشارك فيها عناصر من كل من مصر وإيران وتركيا، أو عناصر تسيطر هذه الدول عليها، ويتولى فيها المصريون ومن يليهم السيطرة على مناطق المعارضة، والإيرانيون السيطرة على مناطق الموالاة، فتكون عناصر القوتين دائماً في محيط مرحب بها طائفياً وسياسياً، ثم تقوم هذه القوة بفرض وقف شامل لإطلاق النار في سوريا، ثم تجرى انتخابات رئاسية متعددة مراقبة دولياً في البلاد بعد الإفراج عن المعتقلين وتبادل الأسرى من جميع الأطراف. وأيا كانت نتيجة الانتخابات فإن هذه القوات كانت ستمنع البطش الحكومي أو الانتقام الطائفي فتحمي دماء الناس وتعيد المهجرين إلى ديارهم وتحافظ على وحدة البلاد وعلى شبكة تحالفات إقليمية لا تكون إسرائيل أو أي من حلفائها طرفاً فيها. وقد كان هذا قبل التدخل العسكري المباشر لقوات إيرانية وقوات تركية على الأرض، وقبل قدوم ميليشيات من العراق، وقبل التدخل اللبناني المباشر في سوريا، وقبل تنظيم الدولة، وبالطبع قبل انقلاب عبد الفتاح السيسي.
فلما وقع انقلاب عبد الفتاح السيسي، لم تعد مصر تنفع كوسيط، فهي وإن أصبحت صديقة لدمشق الضعيفة، فقد أصبحت عدوة لكل من طهران وأنقرة القويتين. وبسبب العداوة المرة بين حكومة القاهرة والإسلاميين عموماً، أصبح أي دور لها في سوريا غير مؤد للتهدئة وإحلال السلام، بل بات مؤجِّجاً للصراع ومضيفاً للثارات الشامية ثارات مصرية أيضًا.
وبخروج مصر، لزم أن يكون هناك جهد إيراني تركي مشترك بلا وسيط، أو بوسيط غير مصر، وقد قدم الروس أنفسهم بصفتهم ذلك الوسيط. فسمحوا للأتراك بالتدخل البري ضد الأكراد، وأرسلوا هم قوات شرطة عسكرية من الشيشان للسيطرة على شرق حلب، وأبقوا الميليشيات العراقية والجيش النظامي السوري في غربها، واضعين في الاعتبار التوتر الطائفي الذي تغرق فيه البلاد. وجدير بالالتفات أن المبدأ الحاكم لهذه الفكرة، مطابق لمبدأ نشر قوات مصرية في مناطق المعارضة، وقوات إيرانية في مناطق الموالاة.
إلا أن الروس فعلوا هذا بعد أن قتلوا من المدنيين السوريين من قتلوا ودمروا من المدن ما دمروا وخلقوا بينهم وبين قسم معتبر من الشعب السوري من الثارات ما خلقوا، وانضمت روسيا إلى قائمة الدول الأوروبية التي لها سوابق امبريالية في بلادنا. ثم إن التدخل الروسي لن يكون لصالح أي من اللاعبين في الإقليم باستثناء إسرائيل. فتركيا لن تحقق مكاسب كبرى في سوريا، وقصاراها اتقاء شر النزعة الانفصالية الكردية ما استطاعت. وإيران تخسر نفوذها في سوريا يوميا لصالح الروس، والأخبار الواردة من دمشق تبين أن النظام هناك يفضل التبعية لروسيا على إيران. فقيادة الجيش السوري تراقب بعين قلقة ازدياد نفوذ الميليشيات العقائدية غير النظامية والتي تتبع طهران أكثر من دمشق. ودمشق تعتقد أن الحسم العسكري حققه سلاح الطيران الروسي لا القوة البرية الإيرانية. ولأن الروس على علاقة جيدة بإسرائيل، فدمشق روسية أقل عرضة للتورط في حرب مع إسرائيل مما لو كانت دمشق إيرانية.
لذلك فغياب مصر، والتدخل الروسي، أدى لأمرين كلاهما كارثي. الأول موت أعداد ضخمة من المدنيين كان من الممكن حمايتهم لو أن حكومة ثورية مصرية هي التي طرحت نفسها كوسيط بين تركيا وإيران، والثاني هو أن نصيب روسيا في سوريا الجديدة سيكون أكبر من نصيب العرب والأتراك والإيرانيين معاً، وسيكون نصيب إسرائيل متضمناً في نصيب روسيا ومضمونا به.
وهي لحظة أخرى للتحسر على ما كان يمكن أن يحصل لو أن الثورة في مصر نجحت، ولم يطح بها تحالف الإسلاميين والعلمانيين، كل في وقته، مع المؤسسة العسكرية وبقايا نظام مبارك.
يمكنك قراءة المدونة عبر الموقع الأصلي هنا