كان اغتيال الرئيس المصري، أنور السادات، في تشرين الأول/ أكتوبر 1981، أول حدث سياسي كبير أتابعه في حياتي، وقد قوبل اغتياله بارتياح كبير في مصر، وفي العالم العربي والإسلامي.
الإسلاميون فرحوا، واليساريون، والأقباط.. بل إن شرفاء الجيش المصري (وكانوا غالبية حينذاك) فرحوا بالخلاص منه.
كتب شعراء مصر قصائد مديح ورثاء في خالد الإٍسلامبولي قاتل السادات، وليراجع من أراد ما كتبه الشاعر أحمد فؤاد نجم، والشاعر عبد الرحمن الأبنودي.
لو عادت بنا الأيام وعرفنا أن مقتل السادات سيورثنا حكم ذلك الرئيس البليد الجلف، الكنز الاستراتيجي لإسرائيل، الخائن اللص المدعو محمد حسني السيد مبارك.. لو عرفنا ذلك.. هل كنا سنفرح باغتيال السادات؟
لا أستطيع أن أجزم.. ولا أملك أحكاما قطعية حول الخير والشر.. ولكن أحداث الحياة بعد ذلك جعلتني أتشكك في كثير مما يفرح به الناس، وأصبحت أرى التسرع والسذاجة والاندفاع سمات ثابتة في التعامل مع الأحداث السياسية في وطننا العربي.
***
مثال آخر لأحداث فرح بها كثير من الناس.. اغتيال الرئيس محمد بوضياف!
وصل الرئيس محمد بوضياف إلى الجزائر يوم 15 كانون الثاني/ يناير 1992، على متن طائرة قادمة من مطار محمد الخامس في الدار البيضاء، بعد غياب دام 28 عاما، وبمجرد وصوله إلى الجزائر قال:
“جئت لإنقاذكم ولإنقاذ الجزائر، وأنا مستعد بكل ما أوتيت من قوة وصلاحية لمحاربة الفساد والرشوة والمحسوبية وأهلها..
هدفي تحقيق العدالة الاجتماعية، من خلال مساعدتكم ومساندتكم التي هي سرّ وجودي بينكم اليوم، وغايتي التي تمنيّتها دائما”.
كان هدف السيد بوضياف محاصرة حكم العسكر في الجزائر، ولكن بحكم أنه قد استدعي من العسكر للانقلاب على نتيجة انتخابات نزيهة فازت بها جبهة الإنقاذ الإسلامية باكتساح، فرح غالبية الإسلاميين حين اغتيل بوضياف في التاسع والعشرين من حزيران/ يونيو 1992، بعد نصف سنة من رئاسته للجزائر.
لست بصدد إصدار أحكام بالخير والشر على أحداث كبيرة.. ولكنني أتساءل هل كان اغتيال بوضياف خيرا؟ هل كان حدثا يستحق أن نفرح له؟ هل ما رأته الجزائر بعد اغتياله يجعلنا نرى ذلك خيرا؟ أم شرا؟
***
حدث آخر.. اغتيال الكاتب المصري فرج فودة رحمه الله!
في نظري.. لم يكن فرج فودة أكثر من كاتب مشاكس، فهو ليس صاحب مشروع فكري متماسك، والمؤمنون بما يكتب قلة (في ذلك الوقت على الأقل)، وجماهيرية المشروع الإسلامي (بكل ما فيه من حقائق وأكاذيب) أكبر من أن تخاف من كاتب مثل فرج فودة!
اغتيل الرجل في 8 حزيران/ يونيو 1992 في القاهرة!
كانت هناك فرحة في بعض أوساط الإسلاميين باغتياله، وهي فرحة طفولية ساذجة، ولا أذكر أن هناك بيانات صدرت تستنكر قتل كاتب لا يملك إلا قلمه صدرت في ذلك الوقت!
كان سر غضب كثير من الإسلاميين منه، المناظرة التي حضرها الشيخ الغزالي، وكان فرج فودة فيها مشاكسا كعادته.. والحقيقة أن المناظرة لم تحمل أي جديد، والشيخ الغزالي رحمه الله مقامه محفوظ.. هذا العالم الجليل الذي لم يستطع “صلاح جاهين” بجلالة قدره، أن يهز فيه شعرة.. هل يهزه فرج فودة!؟
إن جاذبية كتابات “فرج فودة” اليوم بسبب أنه قُتِلَ، ولولا ذلك ربما ما عاشت كتاباته!
***
حدث آخر جلل.. ما سمي بأحداث الحادي عشر من سبتمبر!
رأينا الناس تكاد تتراقص في شوارع العواصم العربية، ثم تبين لنا بعد ذلك أن هذا (الفيلم الأمريكاني) الذي رأيناه على الشاشات، لن يدفع ثمنه إلا العرب والمسلمون في أمريكا، وفي العالم كله.
وبدأ القتل في أفغانستان.. ومنها إلى العراق.. ثم دمرت المنطقة كلها، وكل ذلك بحجة الانتقام مما حدث في الحادي عشر من سبتمبر، لقد تغير العالم كله.
***
من هذا المنطلق.. أصبحت أنظر لكثير من الأحداث، بمنطق العواقب، لذلك لم أتمكن من الشعور بأي فرح أو بأي انتصار، حين شاهدت عملية اغتيال السفير الروسي في أنقرة!
لقد كانت -في نظري- عملا موجها ضد سيادة الدولة التركية بالدرجة الأولى، ولتركيا نصيب الأسد من الشر الكامن في هذه العملية، وروسيا لها نصيب قد لا يتجاوز عشرة في المائة من العواقب.
لقد رأيت هذه العملية كاستمرار لعمليات القتل والتفجير التي تحدث في تركيا، لا فرق بين عملية الاغتيال وبين كل هذه العمليات، وإن كان هناك من فرق، فهو طفيف لا يكاد يلحظ.
لا أريد أن أدخل في دوامة الحكم الشرعي في مسألة قتل السفراء، ولا أريد أن أناقش بعض الذين حاولوا أن يظهروا عملية اغتيال السفير الروسي عملا “شرعيا” لا يتناقض مع أحكام الشريعة.. فموضوع مقالي هو (لماذا نفرح؟)، وليس عن الحكم الشرعي للأحداث التي تفرحنا.
***
الأحداث السابقة التي تحدثت عنها يجمعها رابط هام.. هو العجز!
هذه الأحداث ليست مثل فرحتنا بانتصار المقاومة الفلسطينية في بعض المعارك، أو بانتصار الربيع العربي في موجته الأولى.. ففرحتنا بهذه الأحداث هي فرحة الفاعل، أما الأحداث الأخرى التي ذكرتها فهي أحداث يفرح بها العجزة فقط.
إن الفرحة باغتيال السادات، وبوضياف، وفرج فودة، وبأحداث الحادي عشر من سبتمبر، وقتل السفير الروسي في أنقرة.. كل هذه الأحداث يفرح بها العاجزون عن الفعل، المستسلمون لرياح الأحداث.
شعوب لا تستطيع أن تنتصر على ذبابة.. لذلك تفرح بأي شيء ترى فيه (فشة غل)، مهما كانت عواقب هذا الحدث.
نفرح.. ثم نكتشف أن فرحتنا كانت فرحة كاذبة، وأننا سندفع ثمن هذه الفرحة المزعومة أحزانا ومصائب لا أول لها ولا آخر.
هذه الشعوب لم تعرف معنى الفرحة الحقيقية، حتى استطاعت أن تزيل حكامها وطواغيتها.. وهي اليوم تتشكك في فعلها، وهل كانت تلك الثورات مؤامرات، وهل كانت تلك الفرحة مزيفة!
ليس مقبولا من جيل الثورة أن يستسلم لهذه المشاعر البدائية الساذجة، فنحن جيل أصبح يرى الحياة بمنطق الفعل لا رد الفعل، ولا ينبغي لنا أن نستسلم لأسلوب الرضا بالمشاهدة و(فشة الغل).
سيعود لمشاعرنا الاتزان المطلوب، حين نخلع حكامنا الطغاة، وحين نستعيد قدرتنا على الفعل، حين ينتهي عجزنا الذي امتد عشرات السنين.
***
• تعليق على ما جرى في مجلس الأمن:
لا يمكن التعليق على المهزلة التي حدثت في مجلس الأمن الدولي، حين تقدم النظام المصري الانقلابي بقرار يهدف إلى إدانة الاستيطان على الأراضي المحتلة منذ عام 1967، ثم سُحِبَ القرار حين اكتشف النظام المصري أن أمريكا لن تعترضه بفيتو، كما هي العادة!
لقد صدر القرار.. بما يشبه الإجماع الدولي، وشاء الله أن يكون القرار فاضحا لخيانة عبد الفتاح “سيسي”، وفاضحا لقذارة النظام المصري الحاكم كله.
لقد صدر القرار.. ولا منة فيه لنظام عميل، على رأسه رجل بائس!
أما ما قاله مندوب مصر بعد صدور القرار فهو ليس أكثر من هراء في هراء!
ستبقى فلسطين القضية الإنسانية الأولى حتى تتحرر، وسيبقى صهاينة العرب في مزبلة التاريخ مهما حاولوا أن يجملوا أنفسهم.