لاشك أن الواقع المصري يغص بكثير من العجز والفشل وربما التآمر مما أوصل مصر الدولة والوطن إلى شفير الإنهيار, يضاف إلى هذا كم غير مسبوق من المعاناة يعيشها المصريون جميعاً والأمر مرشح لما هو أسوأ.
هذان الأمران معاً ــ الانهيار والمعاناة ــ يقدمان ذريعة لتقدير كل جهد يبحث في الواقع عن خلاص مما نحن فيه, كما أن ضراوة ما نعانيه لا تجعلنا في ترف الدلال على كل طرح والانتقاص من أي رؤية.
لكن مع ذلك لا يجب أن نُحرم من الحق في النقد الرصين لأي طرح مهما كان, مع الاحترام الكامل لصاحبه نيةً واجتهاداً.
قدم الأستاذ منتصر الزيات رؤيته التي أوردتها صحيفة “عربي 21” باعتبارها تتضمن رؤية شاملة للمصالحة الوطنية بمصر.
ثمة ملاحظات عديدة أراها تنال من واقعية الرؤية المذكورة لكنها تستبقى التقدير والاحترام لها ولغيرها, وألخصها في النقاط التالية:
-
تورطت الرؤية في خطيئة اختزال الأحداث وتوصيفها باعتبارها بين فريقين هما العسكر والإخوان!.. وفي هذا اختصار مُخِل، وفيه كذلك تجاهل لطبيعة الصراع الذي هو في حقيقته صراع بين إرادة الشعب وسطوة الدبابة، بين نتائج انتخابات حرة وبين انقلاب عسكري، بين قيم الحرية والديمقراطية وحقوق المواطن وبين القهر وحكم الفرد والدولة البوليسية.
-
تجاهلت الرؤية كذلك مفردات الصراع التي تجاوز الإخوان والعسكر، حتى اشترك في الصراع كل أجنحة الدولة العميقة ومؤسساتها السيادية والاعلام والقضاء والأزهر والكنيسة فضلاً عن تجاهل دور دول إقليمية ومنظمات أممية وكيانات دولية ودول كبرى في الصراع.
-
المصالحة التي اقترحتها الرؤية ــ أو التسوية وهي المسمى الأنسب ــ ليست بدعة منكرة عند كثيرين, خاصةً إذا ابتلعها المرء نتيجة غياب الحلول وهشاشة الرؤية وعجز الثورة والثوار عن إنتاج مسار سيحقق شيئاً في الأفق القريب وربما البعيد.
-
التسويات غالباً ما تحتاج الى بيئة لتصبح شيئاً يسهل تلقيه والتعاطي معه، وإلا أصبحت مجرد أماني طيبة وأهات خجولة، أو تتحول إلى عقد إذعان أو مستنقع ينسف الواقع المذري ويفجره بأكثر مما يبشر بمستقبل آمن للشعب والوطن.
السؤال المستحق؛ هل ما نعايشه يمكن أن يمثل بيئة حاضنة لطرح مثل هذه الرؤية فضلاً عن إنجاحها؟!.
بمعنى أوضح.. هل السيسي سيكون مقبولاً كطرف في مصالحة كهذه؟! وهل بيئة القتل اليومي والاختطاف القسري واعتقال وسجن الفتيات تمهد لمصالحة وطنية أم تدعو إلى تفخيخ الواقع بالقهر ومزيد من ألغام الانتقام والثأر؟؟
ماذا لو امتلك الإخوان ناصية العقل والحكمة وفاجأوا فرقاء دربهم بأنهم غير متمسكين بالحكم والسلطة حال الوصول إلى تسوية جادة تحفظ حقوق الشعب والوطن؟!، سيظل السؤال الأهم من الذي يمكن أن يجلس كطرف آخر في هذه التسوية؟؟ ومن هي الأطراف الأخرى؟؟!.
أين موقع السيسي أو جنرالات العسكر حينئذ؟!، وأي مدى من السذاجة والعته نحتاجهم للوثوق بالعسكر مرة أخرى وأمن مكرهم وغدرهم؟!.
وإذا افترضنا ذلك توهماً.. ماذا إذن يمكن أن ننتظره من العسكر من تنازلات في هكذا تسوية؟؟!
ومن سيرعى هذه التسوية بحيث يُلزِم كل طرف بتعهداته؟؟.
-
رؤية الزيات تفترض نصاً: تكوين وإنشاء إطار مؤسسي (وزارة – مفوضية – لجنة عليا- مجلس أعلى) له استراتيجية وطنية شاملة وقوانين حديثة.
ولا أدري هل يمكن إعتبار ذلك طرح عملي واقعي أو احتى افتراضي مقبول نظرياً؟! بحيث يمكن أن يخضع العسكر لمثل هذا في الواقع أو حتى في المستحيلات الأربعة!!.
وإذا قَبِل العسكر هل يمكن أن نجد مؤسسة واحدة من “مؤسسات” مصر حافظت على وقارها بعد الثالث من يوليو؟!.
-
أعتقد أن الأستاذ جانبه الصواب حينما اعتبر أن الاستقطاب الذي يشعل الواقع هو استقطاب أيدلوجي وأن خِطاب “مِنَصَّة رابعة” هو من بَدَعه واستحدثه!.
والسؤال المشروع الذي أستغرب غيابه: فيما كانت رابعة أصلاً ومن استدعاها؟ وأين الانقلاب والعسكر منها ومن خطابها؟!، بل إن تجاوز هذا السؤال يضعنا في حيرة؛ أهي طيبة زائدة أم محاباة غير مقبولة وافتراء مشين؟!.
-
عبر الأستاذ عن إشكالية جوهرية تتمثل في رغبة كل فريق في تحقيق المكاسب الكاملة (المغالبة) فكان إصرار الاتجاه الاسلامي على عودة (مرسي–الدستور-مجلس الشورى)، وإصرار السلطة ــ هكذا سَمَّاها ــ خطأ الإصرار على عدم الرجوع لما قبل 3 يوليو.
هذا النقطة تحديداً تحوي مغالطة أخلاقية ما كان يجب عليه أن يقع فيها وهي المساواة بين مطلب شرعي وبين إصرار على اغتصاب وبغي!!.
-
إذا تجاوزنا هذه “المطب” إكراما للنية الطيبة، ومع الحصاد اليومي من القتل والإخفاء القسري والتعذيب..هل مازل هناك بارقة أمل في أجندة جلاوذة الإنقلاب!!.
ومن حقنا أن نسائل الأستاذ منتصر: هل مازالت السلطة الحالية على وفاق ومصالحة حتى مع صبيانها في 30 يونيو؟!..
وأي أمل يمكن انتظاره من سلطة تنكرت لحلفاءها الإقليميين وشركاءها المحليين وداعميها الدوليين؟!.
هل سلطة بهذا اللؤم والإجرام يمكن أن تغري أهل الشرعية وانصار المسار الديمقراطي أيا كان مدى تساهلهم ومرونتهم أن يقدموا شيئاً من التنازل أو يُقبِلوا على طاولة للتفاوض أو يترقبوا مصالحة أو تسوية!!.
أعتقد أن انتظار ذلك لن يكون إلا إذعان مُذِّل واستسلام خانع لا أنتظر أن يُبَشِّر به الزيات فضلاً أن يُسَوِّق له ويرضاه.
-
تناول الرؤية لخطاب الشيطنة لا يحتاج لكثير شرح ولا تساؤل حول مَنْ يُشِيطنَ من؟!، ولا متى بدأت الشيطنة؟!، والحقيقة المُرَّة أن واقعنا المر وإن خلا الملاك الرحيم لكننا نُقَرِر بملء الفم أن إنقلاب السيسي هو الشيطان الرجيم.
-
وَرَد في الرؤية المذكورة ألفاظ فخمة من قبيل إعلاء المصلحة الوطنية والعدل ومعاقبة المُخِطئ وسيادة القانون، وهذه وغيرها تمثل قيماً نبيلة ومبادئ سامية جميلة لكنها تبقى ترهات وخيالات ومستحيلات إذا ما طالبنا بها العسكر أو انتظرناها منهم!.
-
قرَرَّتْ الرؤية نصاً: أن من مقتضيات المصالحة الكشف عن حقيقة الوقائع والأحداث الدموية التي راح ضحيتها الآلاف، وهذا يقتضي بالأساس التعرف على (الطرف الثالث) أو (اللهو الخفي) وكشف غموض حوادث كموقعة الجمل وماسيبرو ومحمد محمود ومجلس الوزراء وغيرها بأدلة دامغة وواضحة.
ولا أدري هل مازال أحد إلى اليوم لا يعرف من المسؤول عن هذا الغموض ومن كان يحميه ولازال يوفر له الخبرة والرعاية والدعم؟!!.
أعتقد أن هذه النقطة تحديداً تنسف كل واقعية وعقلانية ووقار لهذه الرؤية، وتفرض على عقولنا وأفهامنا إجازة طويله ننتظر فيها أن يتوب الشيطان أو حتى يهتدي إبليس!!..
كلا الأمرين جائز وربما يتحقق.. ولكن متى وأين؟!!.
-
ما أتى بعد ذلك من إسراف في الحديث عن العدالة الانتقالية إنما هو هروب من العقبات الواقعية والموانع والكوابح الحقيقية لفكرة المصالحة كما وردت في الرؤية المذكورة، وحَوَّلها من تعاطي جاد مع الواقع الملغوم إلى إفتراضات نظرية وربما دراسة أكاديمية.
وختاماً أعتقد أن ما أتى به المحامي المخضرم الأستاذ منتصر الزيات هو مجرد نتاج لحوار تلفزيوني جمع فيه مجموعة من الأماني الوقورة التي تشهد له بالطيبة والإخلاص بأكثر مما فيه من رؤية واقعية حقيقية تصلح للحل.