في البداية كان يتملكني الأمل، كان أملي في الانتصار وفي الخروج كبيرًا، أملي في العودة إلى الحرية بعزة المنتصر ، أملٌ نابعٌ من قرب عهدي بها، كان جميلًا برؤيته بجدد بحماسة الوافدين إلى المعتقل وبحماسة واستبشار مستقبليهم وبخروج بعضنا من حين إلى آخر.
في الحقيقة كان حب الاستكشاف وقتها يطغى على أي ألم في الأسر، اكتشاف السجن وبلائه والتعرف على من فيه وسماع قصصهم، فحب التوثيق كان يسليني عن الألم ويلهيني عن الرغبة في الخروج، بل أنني في بعض الأحيان تمنيت الاستزادة من التجربة لمشاهدة وتوثيق أكبر كم من المواقف والأحداث.
كانت تلك المرحلة أطول وأجمل مراحل الأمل طيلة سجني، وما كنت أدري أنه بانتهائها ستبدأ معي أطول مراحل الألم، ليصير أملي بعد طول السجن هو استعادة حريتي بأي شكل كان. وبدأت بالفعل أولى الانتكاسات، لا أتذكر متى كانت وماذا كانت أسبابها تحديدًا في ذلك الوقت، لكنني أتذكر إحساسي الشديد بالغربة في السجن خصوصًا بعد رحيل الكثير ممن شاركوني بداية الرحلة، ثم أصبح ما كنت أستبشر به باعثًا على الخوف من مستقبل قد أقضيه في السجن بأيامه وأحلامه..
ازداد شعوري بالخوف يوم صدور قرار إحالتي ومن معي والتعرف على أبعاد القضية التي زج باسمي فيها، والتعرف على اسم القاضي الذي أوكلت له مهمة البت فيها، وكان خوفي في محله..
وكطبيعة أي أسير ومعتقل فقد كنت لا أتوقف عن البحث عن أي أمل أتعلق به، فتجدد أملي هذه المرة بمشاهدة الحراك الثوري مشتعلًا، ورؤية صفوفه تبتكر فيه حتى وإن اختلفت مع بعض ممارساته “الثورية”، ولكن يبقى في النهاية استمرار الحراك مكسبًا لنا كمعتقلين، وإن رغب النظام في مغازلة الثوار، فستكون قضية المعتقلين أولى ورقات اللعب، وإن حدث وكان للثورة كلمة، فستكون الكلمة في صالحنا..
ولأن شعلة الثورة في الخارج كانت مضيئة، فانعكاسها في أنفسنا كان جذوة أمل ثوري يلتهم ظلام أي شعور بالخوف أو اليأس أو الضياع. وكما كان انعكاس الثورة في أعيننا انتصارًا، كان في أعين سجانينا رعبًا نلمسه في حديثهم معنا، ونراه في خوفهم منا وتضييقهم علينا، رغم أننا نحن المساجين وهو السجانون.
كان الحلم وكانت الثورة وكان الأمل، وما كنت أدري أنه في الثورة أناس تمرسوا وأد الثورات وإضاعة الفرص، تمرسوا إخماد الشعلة، إخماد شعلة الأمل في نفوسنا وبلا أي مقابل ولا حتى خروجي ومن معي من السجون، ومنذ تلك اللحظة أصبح السجن انتكاسة كبيرة يتخللها ومضات أمل سرعان ما تتحول إلى سراب وهم وألم.
ثم حدث أن رُحّلت إلى سجن آخر وكان أول من قابلت شباب ثُبِّتت عليهم أحكام بالمؤبد بعد رفض نقضها في محكمة النقض، وما استطعت تحمل مجرد التفكير في حالهم وما سيكون حالي لو كنت مكانهم.
وعاد سراب الأمل بالخروج يتراءى لي بعدما أسرّ لي والدي أنه توسط لإخراجي في حالة قبول النقض في قضيتي، ثم حدث أن عدت إلى نفس القاضي السابق لكن بهيئة جديدة، عدت إلى نفس الدوائر التي حاكمتني من قبل.. دوائر الإرهاب!
بعد ذلك كَثُرَ الحديث عن قوائم أعدت للإفراج عن الصحفيين المعتقلين والتي ستصدر بمناسبة الاحتفال باليوبيل الفضي لتأسيس نقابة الصحفيين، وأقسم لي البعض حينها أن اسمي ومن معي من الصحفيين موجود بالفعل في هذه القائمة، وتعهد السيسي في إحدى لقاءاته الإعلامية بالإفراج عن شباب الصحفيين، فوُلِدَ الأمل هذه المرة كبيرًا! ثم حدث أن تحول شهر العسل بين النظام والصحفيين إلى طلاق بلا رجعة دون إخراجي وزملائي من براثن السجون، فانفجر بالون الأمل هذه المرة في وجوهنا حتى آلمنا أيما ألم، فصرنا نخاف الأمل ونرهب الحديث عنه.
سيقول البعض الآن “خلي أملك في الله كبير”.. أقول لهم أنه من تمام أملي بالله أنني على يقين أنه سيجيء يوم أقف فيه مع ظالمي أمام الرب، أقول يومها لربي “أي ربي هذا ظالمي، سلب مني أغلى سنين عمري، وتحكم وظلم وتجبر، قهر أبي وفطر قلب أمي، فيا رب والله لن أرضى إلا أن تقتص لي منه..”،
إنه من تمام أملي بالله أني أوقن أنني لن أخرج من السجن إلا بأسباب دنيوية، فللكون نواميس لا تتبدل ولا تتغير من أجل أحد حتى وإن كان على الحق، إنه من تمام أملي بالله أنني أدعوه في كل سجدة أن يعجل لي بالفرج، وألا يبتليني بما ابتلى به آخرين سبقونا بالمكوث في السجن عقودًا طوال، وأن يلهمني ويفتح لي في أسباب الخروج.
ذاك كان ألم الأمل، إن كل أمل إذا طال انتظاره ثم لم يأتِ غدا عذابًا وألمًا. كل سراب هو في حقيقته جحيم لحظة إدراك للحقيقة.
تُرى، هل يمر علينا يوم نأمل فيه فلا نألم؟ هل سيكون من شان أي منكم أن يساهم في زراعة أمل كهذا وتحقيقه؟