لا زلت أعجز عن وصف ما اعتراني من مشاعر وأحاسيس حين أكملت قراءة كتاب ” أموت انا كي أكون” ل “أنيتا مورجان”، الذي تتحدث فيه عن رحلتها القاسية والمضنية مع “السرطان”.
لا زلت أسأل نفسي إلى يومي هذا؛ هل سكن هذا الكتاب جوارحي – حتى حفظت سره عن ظهر قلب – أم أنا التي أسكنته؟ هل غير حقا الكتاب شيئا في نمط تفكيري أم أنا التي تغيرت؟ هل علمتني عباراته وكلماته أشياء كنت أجهلها أم أنا التي نضجت؟ هل استغرقني الكتاب أم أنا التي استغرقت؟
ظلت هذه الأسئلة تراود تفكيري كثيرا، حتى وصلت إلى نتيجة أقنعتني، “أنا أو هو” لا يهم، فالفارق ليس ذي أهمية، ذلك أنني وإياه كنا لبعضنا سندا وظهيرا، فقد كان متحدث رائع لي، وكنت أنا منصتة مخلصة له، الى الحد الذي جعلني أقرر لحظة أغلاق الكتاب، فتح نافذة جديدة في حياتي أسميتها ” أعيش لأجدني”، لقد قررت أن أبحث عني حتى أجدني “فعلا”، لقد أيقنت أن بداخلي أشياء كثيرة أجهلها بالرغم من روعتها، لقد آمنت أن إرادتي وعزيمتي قادرتان على فعل ما لا يقوى عليه جسدي، فعزمت أن أخضع جسدي لإرادتي، وأبدأ بفعل كل ما كنت أظن أني لا أقدر على فعله.
لقد علمت أن لا خير يرجى من بشاشة وجهي ونضارته؛ أن كانت نفسي قد ناهزت الثمانين من عمرها وأصيبت بالشيخوخة، لقد علمت أن عملي لا يقوم به إلا ساعدي فقررت أن أعمل حتى الممات، لقد علمت أن نوائب الدنيا ومصائبها ليست طريقا ليأسي وحزني؛ بل طريقا لصبري واحتسابي فقررت أن أجعل طريقي إلى الله عامرا راضيا وواثقا.
لقد حدثني هذا الكتاب بما كنت أحدث به نفسي من قبل، لكني لم أكن أتلمسه جيدا، ولم أكن لأصل إلى نهايته وحدي حتى أوصلنيه هو، “نعم” قد نجهل أنفسنا بأنفسنا، وقد نبدو على غير حقيقتنا ونحن نظن كل الظن بأن لا حقيقة لنا غيرها، وقد نكون مختلفين تماما عما كنا نظن أننا عليه، أو ما كنا نفعله، أو نحدث أنفسنا وغيرنا به، أو ما كنا نكتبه عنا بأيدينا، وقد نمضي دهرا ونحن نجلب لأنفسنا ما كنا نظنه يناسبها “بينما هو أشر الأمور اليها”، وكنا ندرأ عنها ما نظن أنه لا يناسبها لنعلم فيما بعد “أنها كانت لأنفسنا حياة”، نحن من نحجم أحلامنا وآمالنا أو نقتلها في بعض الأحيان بأيدينا، إيمانا منا بضآلة قدراتنا وقلة حيلتنا، بينما الحقيقة أن في داخل كل منا قوة يجهلها أو يروق له أن يجهلها، متناسيا أن القدرات كالأحلام تماما، لها أجنحة وباستطاعتها الطيران، إلا أننا فضلنا أن نحلق بأحلامنا فقط إلى عنان السماء، ونخبأ قدراتنا في صناديق مغلقة.
إن اختلافنا عن أنفسنا لا يقل قدرا عن اختلافنا عن غيرنا، بيد أن حاجتنا لأنفسنا أهم بكثير من حاجتنا لغيرنا، فما الضير إن جهلنا حقيقة غيرنا؟ لكن المصيبة “جل المصيبة” أن نجهل حقيقة أنفسنا، ولهذا يستميت الكثير منا لإيجاد صديق أو رفيق أو قريب أو حبيب؛ ليفهمه، أو ليفضي اليه، أو ليشاركه أفراحه وأتراحه، وقد يجد هذا أو لا يجد، ثم يخرج في النهاية بحكمة غريبة عجيبة ” لا وجود للصداقة، ولا وجود للأخوة”، وليعيش باقي أيامه على هذا المنهج والمبدأ الضال والمضل، ليس لأنه لم يجد صديق صدوق يفهمه حقا أو يخلص اليه؛ بل لأنه لم يكن يوما صديقا مخلصا لنفسه ولا صادقا معها، ولم يفهم خوالجها واحتياجاتها فكيف يفهمها غيره أو يحبها؟ هو من لم يؤمن بنفسه ولم يدفع بها الى الأمام حتى يؤمن بها غيره ويعطيها قدرها، ولذا يشكو كلا منا للآخر ضيق الأرض عليه بما رحبت؛ والحقيقة بأن الأرض لا حول لها ولا قوة، ومن ضاقت بنا هي أنفسنا وليست الأرض.
إن خوالج النفس وتناقضاتها أمرا لا يعيبها ابدا، ولا يتطلب منا إنكارها أو مواراتها لهثا وراء الكمال، وسعيا وراء الجمال، والسبب بسيط جدا، وهو ايماننا بأن كمال النفس بنقصها، وجمالها بتناقضها، فمتى وقفنا على هذه الحقيقة “جديا” نكون قد اقتربنا كثيرا من أنفسنا ومن ذاتنا كثيرا، لذى فنحن لا نحتاج الى بحث عن ذاتنا؛ نحن نحتاج الى فهم ذاتنا، والايمان بها ، ومحبتها، والعيش لها، حتى نكون قادرين على حب غيرنا، والايمان به، والعيش له، ولذا يجب أن تكون ذاتنا هي “بوابتنا للعالم” وليس العكس، لأن “فاقد الشيء لا يعطيه بل يسيء اليه”، تماما كالجاهل الذي يفتي بغير علم فيسيء للعلم، في حين أن الجهل بالشيء ليس بنقيصة للشخص ولا مذمة، فكلنا جاهل مهما ارتفعت درجات علمنا ومعرفتنا، ونصف العلم “كما يقال” هي كلمة “لا أعرف”، لكن النقيصة أن نواري جهلنا بادعائنا العلم، وهذه تحديدا هي خطيئتنا تجاه انفسنا، وهي محاولتنا كل الوقت تغطية عيوبنا بالنقيض البعيد جدا عن حقيقتها، وبالتالي نحملها أحمالا فوق طاقتها، ونزج فيها ما لا تطيق حمله، فنجلب لأنفسنا المرض العضال والشرخ العميق الذي لا شفاء منه، ونحمل وزرنا ووزرها وقد كنا عنه في غنى.