في تصورٍ لأزمة بين الدولار الذي ارتفع، والجنيه الذي تدهورت قيمته، تأتي إشكالية تتعلق بالحكم الراشد، ذلك أن الأمر إنما يدلّ، في هذا الارتفاع غير المبرّر، على حالة فساد وإفساد، مسؤول عنها ذلك النظام الانقلابي، بحكمه الاستبدادي ومؤسسات فساده العاتية، ذلك أن هؤلاء، للأسف الشديد، لا يتعاملون مع حقيقة القضية، ولا الأزمة، بالأبجديات اللازمة التي تتعلق بمعالجةٍ اقتصادية، وظلوا يُموّهون تارةً بخروج مدير البنك المركزي المصري، مبشراً المصريين بأوهامٍ أن الدولار سيعود في سعره إلى أقل من أربعة جنيهات مصرية.
ظلّ يقول ذلك ضمن خطابٍ فارغٍ يتحدث عن أسبابٍ غير حقيقية لارتفاع الدولار، واستخدم هؤلاء تلك الشماعة الاعتيادية التي تتعلق بالمؤامرة الإخوانية، إن حسن مالك هو المسؤول عن ارتفاع سعر الدولار. هكذا قالوا سابقاً، ثم تكشّف الوضع بتعديل السعر الرسمي، ووُضِعَ حسن مالك في زنزانته، واستمر الدولار في الارتفاع، لكن مالك في محبسه لا يقوى على فعل شيء، وهو تحت حراسة مشدّدة في زنزانته الانفرادية. حاول هؤلاء في كل مرة أن يردّوا الأزمة إلى غير أسبابها.
وتفتقت أذهان هؤلاء عن مسألة خطيرة هذه المرّة، فقد قاموا بحملة مداهماتٍ، متصورين أن حل المسألة الاقتصادية يمكن معالجته بأسلحةٍ أمنيةٍ، وبحملة مداهمات لمحلات صرافة، من دون أن يكلفوا خاطرهم للتعرّف على الأسباب الحقيقية والتعامل معها بكل مهنية، لكنهم وفق العقلية الأمنية، حينما لا يعجبهم شيء، يطلقون عليه بلطجية الداخلية. وقال المنقلب كبيرهم إن الناس سيهرولون، حتى يتخلصوا من دولاراتهم. ترافق ذلك مع حملة إعلامية، حملة “العين الحمرا” التي أظهرها عبد الفتاح السيسي للدولار، فسقط مغشياً عليه مواصلا تدهوره، وما إن قال ذلك، حتى واصل الدولار ارتفاعه مرة أخرى، لأنه لا يفهم أن المعالجة الاقتصادية غير الشمّاعة الإخوانية والمداهمات الأمنية، هذه هي القضية.
معالجة هذا الأمر بهذه البلطجة إنما تعبّر عن ديدن النظام في التعامل مع كل المسائل التي لا يعرف، ولا يجيد في التعامل إلا تلك اللغة، لغة لا تعرف للحكم الراشد سبيلاً، وتؤكد أن هذا المسار البلطجي عمل ممنهج واعتيادي، لا يمت بأية صلة لأصل القضية، أو إمكانية معالجتها الاقتصادية. هكذا اعتاد النظام الانقلابي، فأصدر أوامره بمطاردة الدولار ومحاصرته وتطويقه، وأطلق عليه حملاتٍ من المداهمات، وسيلاً من المصادرات، ولم يبق فقط إلا إطلاق الرصاص عليه، كما كان يفعل مع المتظاهرين، إلا أن الدولار، بقوته وصولجانه، كان يفلت كل مرة من قبضتهم الحديدية.
يطلبون الدولار بقروضٍ من الصندوق، ولا تهم شروطه الوحشية وآثارها على فئاتٍ شعبية، تنهكها زيادات الأسعار اليومية، قروض خارجية وقروض داخلية، وشروط مجحفة، لا تطاول إلا الفقراء، فتزيدهم فقرا وقهرا بلا رحمة، وبلا أدنى اعتبار لمتطلباتهم الإنسانية الضرورية، حكم الدولار مرة أخرى يفتك بمعايشة الناس اليومية.
ننتقل، هذه المرة، إلى حكم الدولار الذي يفسر لنا لماذا ساعدت الولايات المتحدة والدول الغربية هذا النظام الانقلابي وأيدته ودعمته، وتغاضت عن كل ممارسة تتعلق بانتهاك الحقوق الإنسانية، فحدثت المجازر، ولم تحرّك السلطات في الدول الغربية أية قضية. أشاروا فقط إلى قيام النظام بأفعالٍ اكتسب بها الشرعية، فها هي استفتاءاتٌ دستورية، وتلك مسرحية انتخابات رئاسية هزلية، وهذه انتخابات مصنعة برلمانية.
وللأسف، اعتمدت الولايات المتحدة الأميركية التسميات الانقلابية خريطة طريقٍ على مسار الشرعية، أي شرعية تلك التي أرادوها لحالةٍ انقلابية؟ فهل يضفي ذلك كله شرعيةً على اغتصاب سلطةٍ، استندت إلى خيارات شعبية؟ وهل يمكن أن يحدث ذلك لانقلابٍ ألغى، بجرة سلاح، خمسة استحقاقات انتخابية واستفتائية؟ ما هذا النفاق الذي يتعلق بزيف الديمقراطية؟ من هؤلاء الذين يصدّعون رؤوسنا كل يوم بدروس عن حقوق الإنسان والديمقراطية، يدّعون أنهم يعلموننا، ويحتكرون مقاعد الأستاذية، ما لكم كيف تحكمون؟.
حضرت، يوم الثلاثاء الماضي، ورشة دراسية، استمعت إلى ملاحظاتٍ تتعلق بتحكّم السياسة الأميركية في مسارات العالم وكل مسألة وقضية، استمعت إلى أن الولايات المتحدة الأميركية، تغضّ الطرف في المسألة السورية عن التدخلات الروسية والقتل لكل من ينتمي إلى الحياة المدنية من مدنيين عزّل بدم بارد، حتى اتخذت شكل الإبادة الجماعية. هذه حلب وغير حلب، وهذه إدلب وغير إدلب، وهذا ريف دمشق تقصفه الطائرات الروسية، يموت البشر، ولا نرى تعقيبا أو استنكاراً، بل هي حالة عمى تتغافل عن أصل القضية.
لا ترى الولايات المتحدة بأية حال في بلادنا أي تمكينٍ للديمقراطية، وما يهمها، كما يهم السيسي، هو الاستبداد بكل عناصر الجغرافية العربية، هذا العراق خربت كل حضارته وثقافته، بل الإنسان وبشريته، قانون الطائفة والكراهية هو الذي يسود، وها هو الفساد يعشّش في كل مكان، ويمرح في البرية. ماذا يفعل هؤلاء سوى أنهم خرّبوا كل عمران، وهدموا البيوت وأزهقوا الأرواح والنفوس؟ ولم يعد الأمر يقتصر على العراق. هذه أيضاً سورية، والقضية الليبية تنتظر المصير نفسه، بالانجرار إلى حروب أهلية، ماذا يعني ذلك سوى أنهم يروّجون كل أمرٍ، يساعد استبداد دولارهم في حكمه للعالم؟ الدولار قضيتهم الأساسية.
هذه حال المديونية الأميركية التي تزداد وتتمدّد، حتى وصلت، في هذا اليوم، إلى أكثر من تسعة عشر تريليون دولار. أميركا فوق الحساب تطبع من الدولار وتفرضه عملة تعامل دولية، ماذا يعني ذلك؟ على الرغم من هذه المديونية؟ تسند أميركا الدولار وتدعمه بكل أسلحتها الجهنمية. إنه محمي بقوة عسكرية، هو الذي يحكم العالم والبشرية، كلمته فوق كل قضية، حينما تريد الدول أن تتحدّث عن سياسةٍ تتعلق بسلة العملات، فإن أميركا تنتفض وتخوض الحروب الاستباقية والوقائية، في كل مكان تمكن فقط للدولار، مهما كان ذلك على حساب الشعوب والحرية، ولا تقيم وزناً في هذه البلاد للديمقراطية، ربما ترى الولايات المتحدة أننا لا نستحق الحرية.
في ظل هذه الوضعية، يأتي حكم الدولار، لا الحكم الراشد، على مستوى بلادنا القُطرية، وعلى مستوى العالم والبشرية. الحكم الراشد لا يهم، وليس هو القضية، حكم الدولار، للأسف الشديد، صار جوهر دفاع أميركا عن مصالحها الإمبراطورية، الأمر لم يعد يتعلق لا بالحرية ولا بالديمقراطية.
وفي النهاية، يسقط تحكم الرأسمالية والإمبريالية، يسقط كل استبداد وفساد في دولنا القطرية، يسقط حكم الدولار، لأنه امتهن كل أمرٍ يتعلق بطلب الشعوب الحكم الراشد والحرية. دولار الاستبداد في مصر ودولار التحكّم في الدنيا من الولايات المتحدة الأميركية لا يعترف بأية ديمقراطية. يسقط هذا التحالف الطغياني بين المستبد وتوحش الرأسمالية الأميركية والغربية، بين حكم المستبد وبطانته الفاشية، وبلطجة حكم الدولار على عموم البرية، تهلك الشعوب المنسية، وتنتهك كرامتها الإنسانية.