أثار حديث الدكتور عصام حجي مؤخرا عاصفة من الجدل، بعد أن طرح فكرة تكوين فريق رئاسي لخوض الانتخابات الرئاسية عام 2018، رغم أنه لم يتحدث عن أشخاص وإنما تحدث بشكل مقتضب عن ضرورة وجود تصور ورؤية تصنع بديلا سياسيا واجتماعيا ينتشل مصر من كبوتها. بمجرد حديث الرجل عن ذلك فتح على نفسه أبواب المزايدة والتخوين من كل ناحية.
يمكن تفهم هجوم مؤيدي السلطة على الرجل وتشويهه المتصاعد؛ لأنهم يريدون استمرار الأوضاع كما هي الآن، لكن الغريب هو الهجوم الكاسح الذي نال به الرجل من محسوبين على التيار الثوري والديموقراطي؛ الذين اعتبروا الحديث عن مشاركة انتخابية في ظل هذا النظام مشاركة هزلية تضفي الشرعية على العملية الانتخابية، التي ستكون فاصلا جديدا من عبث السلطة وتأميمها للسياسة واكتسابا لشرعية جديدة قد تكون مقاطعة الانتخابات أفضل الطرق للانتقاص من هذه الشرعية.
علينا أن نعترف أن التيار الديموقراطي المعارض للسلطة يريد التغيير، لكنه لا يعرف ما هو مسار التغيير الذى سيسلكه. لا أحد يقدم تصورا عن البداية والمسار، الغالبيية تنتظر حدثا قدريا مفاجئا أو انفجارا ثوريا يخلق فرصة سياسية جديدة لاستعادة المسار الديموقراطي، لكن الحقيقة أن الرهان على هذا ليس كافيا ولا يمكن انتظاره؛ لأنه قد لا يأتي رغم كل الكوارث التي تشهدها البلاد، والأدهى من ذلك أن يُحدث انفجارا اجتماعيا واسعا وعشوائيا لا يمكن السيطرة عليه ولا ترشيد خطواته، لتسقط البلاد في فخ الفوضى والعنف الذي لا يرضاه عاقل ولا يتمناه.
في نفس الوقت، توصد السلطة كل مسارات الإصلاح وتصر على الانفراد بالمشهد السياسي المصنوع في مكاتب أجهزتها. ولعل تجربة البرلمان الحالي وطريقة تشكيله التي تكشفت فصولها أجهضت الأمل لدى الكثيرين في إمكانية تغير سلوك السلطة في أي عملية انتخابية قادمة، لذلك كله يمكن تفهم حالة الإحباط والرفض لفكرة حجي بهذه الحدة. لكن يتبقى السؤال ماذا ننتظر؟ وعلى أي أمر نراهن؟ وكيف ستعود الديموقراطية لمصر؟
يطرح الدكتور عبد الفتاح ماضي طرحا مختلفا يضع ضوابط حاكمة للمشاركة في أي عملية انتخابية قادمة. ويقول:
“نحن أمام حالة عدم قابلية النظام الحالي للإصلاح من الداخل استنادا إلى طبيعة النظام نفسه. فهو الذي أسند بقاءه على أساس الصراع الصفري مع خصومه، ولم تقف قبضته الأمنية الباطشة عند خصومه الإسلاميين كما كان يتصور البعض، وإنما امتدت إلى كل من لا يصطف مع النظام من الإسلاميين وغير الإسلاميين على حد سواء، فضلا عن أن النظام مستمر في سياساته الهادفة إلى السيطرة على كل مؤسسات الدولة من جيش وقضاء وإعلام ومؤسسات دينية واجتماعية ومجتمع مدني وجامعات، ويرفض إتاحة أي مساحة للمشاركة البناءة، ويستمر إعلاميا في تخوين كل من لا يؤيده، ويزرع يوميا اليأس والخوف والخرافات في نفوس الشباب والجماهير، بجانب قيامه بوضع منظومة قانونية تحمي الفساد، وفشله في الاقتصاد وإغراق البلاد في كم هائل من الديون.
هذه الأنظمة التي تعيش بالعنف والقمع لا يمكن إصلاحها من الداخل للأسف بسبب طبيعتها، هذا فضلا عن أن هذه الأنظمة تشجع وجود منافسين لهم كديكور للديمقراطية المزيفة، ولكسب بعض الشرعية الزائفة من الخارج وخاصة من الدول الديمقراطية الغربية التي تعاملنا بازدواجية واضحة.
طبيعة هذه الأنظمة ذاتها تحدد طريقة التغيير التي تمر بها، وفي حالات الانتقال المماثلة كان مصير معظمها إما انقلاب على الانقلاب أو ثورة عارمة أو حرب أهلية أو غزو خارجي. وهذه كلها طرق عنيفة وقد تكون مدمرة والمطلوب هو أن يغير النظام (أو يُدفع دفعا إلى تغيير) كل ما سبق حتى يمكن الحديث عن الإصلاح وحتى يمكن انقاذ الدولة والمجتمع والاقتصاد والجيش وبقية مؤسسات الدولة.
ولهذا على الجميع الانتباه جيدا، فإذا لم يتحد الجميع ويتفقوا على مشروع وطني جامع لإنقاذ مصر بكل الطرق السلمية الممكنة فإن الثمن الذي سيدفعه الجميع سيكون باهظا جدا.
شروط النضال عبر الانتخابات
أما من يرى أن النضال ضد الأنظمة العسكرية والبوليسية ممكن عبر منافستها في الانتخابات، فليرفع مطالب حقيقية (كما حدث في حالات أخرى) بدلا من مجرد الدفع بأسماء للتنافس في ظل نفس المنظومة الأمنية والقانونية القائمة، أو بدلا من تصور أن النظام يمكن أن يتغير من تلقاء نفسه وأهم هذه المطالب التي يمكن أن توفر الحد الأدني من الأطر الدستورية والقانونية والسياسية اللازمة لإجراء انتخابات حقيقية:
أولا- تغيير الإطار الدستوري والقانوني:
رفض الدستور الحالي والمطالبة بوضع دستور ديمقراطي حقيقي يحتوي على ضمانات حقيقية لتمكين الشعب من التمتع بالحريات والحقوق، فضلا عن المطالبة بتعديل المنظومة القانونية المرتبطة بالانتخابات والحريات السياسية، وإلغاء كافة القوانين المقيدة كقانون التظاهر.
ثانيا- إنهاء تدخل الأمن في السياسة:
وقف هيمنة مؤسسات الأمن والمخابرات على الحياة السياسية والتدخل في الانتخابات كما حدث في ما سمي “انتخابات البرلمان”، ومحاسبة كل المسؤولين عن التجاوزات التي تمت في كل ما سمي مناسبات انتخابية منذ 2013، بدءا من الاستفتاء على الدستور، مرورا بالانتخابات الرئاسية وانتهاءً بالبرلمانية، والمطالبة بإسقاط كل الأحكام المسيسة والإفراج عن كل المعتقلين، ووقف عمليات التعذيب والاختفاء القسري، وإلغاء قرارات المصادرة، ومحاسبة المسؤولين عن كل هذه الانتهاكات أمام نظام عدالة انتقالية مستقل تماما عن السلطة التنفيذية والنظام القضائي، فضلا عن إعادة هيكلية وزارة الداخلية وإخراجها تماما من المشهد السياسي. فلا يمكن أن تجري انتخابات في ظل قبضة أمنية باطشة ومحاكمات مسيسة وأجهزة لا تخضع لأدنى قدر من الشفافية والرقابة والمحاسبة.
ثالثا- إنهاء تضليل الناس إعلاميا:
وقف هيمنة أجهزة الأمن على الإعلام الحكومي والخاص، وتقديم الأذرع الإعلامية ومن يحركها من أجهزة الأمن للعدالة لمحاسبتهم عن كل الأكاذيب التي روجت وعن عمليات التحريض والكراهية خلال السنوات الثلاث السابقة، وتشكيل هيئة من الخبراء المحايدين لإعادة هيكلة قطاع الإعلام ووضع كافة الآليات لضمان حيدته ونزاهته قبل وأثناء وبعد الانتخابات. فبغير هذا ستستمر عملية غسيل المخ والتضليل التي يتعرض لها الشعب وسيستمر تزوير إرادة الناخبين ولن تكون هناك مساحات متساوية للمرشحين في وسائل الإعلام.
رابعا- استقلال القضاء استقلالا تاما:
المطالبة والعمل على استقلال تام لمؤسسة القضاء عن السلطة التنفيذية، وكذلك استقلال كافة مؤسسات الرقابة
خامسا- تحرير الدين:
المطالبة والعمل على رفع اليد عن الدين والمؤسسات الدينية في الدولة كالأزهر ودار الإفتاء والكنيسة، ووضع كافة الضمانات الكفيلة باستقلال هذه المؤسسات عن السلطة التنفيذية وقيامها بأدوارها الدينية والاجتماعية دون تحيز للسلطة أو هيمنة عليها من السلطة”. انتهى الاقتباس.
ما أروع هذا الطرح إذا تحقق بالفعل! لكن ما الذي يحققه؟ وما الذي يدعو السلطة للالتزام بهذه الضوابط؟ وما الذي يضغط عليها لتنصاع لهذه المطالب؟ الإجابة: لا شيء!!
لا يوجد ضغط شعبي ولا تجمع نخبوي وطني متفق على أجندة سياسية واحدة. النظام وحده في الساحة لا يسمع سوى نفسه ولا يرى غير مؤيديه. نحن أمام فشل مزدوج، السلطة فشلت في قراءة الواقع وتتعامل بغرور كارثي العواقب مع غلق كل مسارات الإصلاح المحتمل وتأميم المجال العام، والتيار الديموقراطي المعارض ما زال مهلهلا غير ناضج الرؤى ويتعامل بطريقة ردودالأفعال دون طرح جريء يسبق خطوات السلطة.
لعل أهم ما قاله حجي هو السعي لبناء الرؤية والتصورات التي تقدم حلولا لإنقاذ مصر، وهذا جهد مطلوب بشدة يجب شكر من يتصدى للقيام به ومساعدته، أما الحديث عن مسار انتخابي ولو بعد حين فيحتاج لكثير من التمهل حتى لا نكرر أخطاء الماضي وندور في الحلقة المفرغة.