بعد عقود من سوء الإدارة الاقتصادية تحت نمط من الرأسمالية الاستغلالية، التجارية والتابعة، والتي لم تتورع عن الاحتكار والفساد، وغلبة أساليب الاقتراض والاستجداء من أغنياء العرب والأجانب، يتداعي اقتصاد مصر مترنحًا تحت وطأة ركود اقتصادي ومتصاعد تضخمي جامح توطن بسبب تراكم أزمات طاحنة تضر برفاه المصريين بل وتطيح بمقومات العيش الكريم من خلال تفشي البطالة- الفقر، ويوشك الركود أن يستحيل كسادًا مدمرًا.
فمصر الآن تعيش حالة من الركود التضخمي المضر بالمستضعفين بسبب سياسات الحكومة الظالمة لرأس لحكم العسكري الظلوم، وينبري الإعلام المدار للدفاع عنه دون حياء من جهل إعلامييها الطاغي.
بداية، معدل النمو في الناتج المحلي الاجمالي الحقيقي (أي باستبعاد تأثر التصخم، أو غلاء الأسعار) لا يتعدى في افضل التقديرات 1% في السنة، وما زاد عن ذلك من تقديرات أو تمنيات تطلقها الحكومة الفاشلة لا يتعدى كونه اضغاث أحلام من محترفي الكذب والخداع.
ولا يتساقط لسواد الناس من المستضعفين ولو قطرات من عوائد النمو القليل الذي يتحقق. فسياسات رئيس الحكم العسكري ووزارته الخنوع تزيد من نصيب سادة الحكم (المؤسسة العسكرية وكبار اصحاب الأموال) وأدواته (الجيش والشرطة والقضاء الخنوع) من الناتج الاجمالي خصما على نصيب المستضعفين.
في المحصلة يتعاضد ضعف النمو وتوزيع عوائده لمصلحة الأغنياء والاقوياء على حساب الضعفاء والفقراء إلى مجافاة اعتبارات العدالة في توزيع الدخل والثروة، وهو في الفهم السليم لاقتصاديات التنمية من أسباب ضعف النمو وإحباط التقدم البشري بوجه عام، ناهيك عن تفاقم الظلم الاجتماعي الحافز على الاحتجاج الشعبي الذي قد يتطور إلى الانتفاض الشعبي ضد الحكم خروجا على القهر والظلم.
ويضيف إلى الظلم الاجتماعي تمادي الحكومة تحت الحكم العسكري في الجباية الجائرة وفي إشعال نيران الغلاء الجنوني من خلال رفع أسعار السلع والخدمات الأساسية لعامة الناس مثل الماء والكهرباء والوقود، على الرغم من انخفاض اسعار النفط في السوق العالمي.
ولكن حالة الركود التضخمي الظالم للمستضعفين هذه توشك أن تستحيل كسادا مدمرا لبنية الاقتصاد ولرفاه الشعب على حد سواء. نظرا لأنه تقف وراء هذا الركود التضخمي مسببات من عيوب هيكلية بنيوية تؤسس للتعاسة البشرية المتمثلة في متلازمة البطالة- الفقر التي تحيق بسواد المصريين تحت الحكم العسكري الراهن.
المعلم البنيوي الأول لتدهور الوضع الاقتصادي لمصر هو ضعف البنية الإنتاجية وتدهورها المطرد بخروج متزايد بعض المشروعات الاقتصادية من الإنتاج ومن مصر ذاتها بالنسبة للشركات الأجنبية.
يترتب على هذا الضعف تردي القدرة التصديرية للاقتصاد ومن ثم تضخم العجز في ميراني التجارة والمدفوعات الدوليين، اللذان يفاقم منهما إنهيار قطاع السياحة تحت معاول سوء الإدارة الذي عالجت في مقال سابق.
كنتيجة مباشرة تتدهور قيمة العملة الوطنية في مقابل الدولار وباقي العملات الاجنبية باطراد حتى تجاوز السعر الحقيقي للدولار ثلاثة عشر جنيها. ولا تخفي مغبة ذلك التهاوي على أسعار جميع السلع والخدمات في الاقتصاد الذي بات معتمدا بصورة حرجةعلى الاستيراد من الخارج لأغراض الاستهلاك والإنتاج سويا.
وبسبب غياب الرشد عن الإنفاق الحكومي، وبلوغ بعضه تخوم السفه، مثل التبذير بشراء الشلاح باهظ التكلفة بينما يستشري الفقر بين سواد مستضعفي مصر، فقد تفاقم عبء المديونية على الاقتصاد المصري.
تنامى الدين المحلي الذي صار يناهز ثلاثة تريليون (ألف مليار، اي واحد واثنى عشر صفرا) جنيه وبات عبء خدمته، من اقساط سداد وفوائد، يقارب 300 مليون جنيه سنويا.
كما أمسى الدين الخارجي يتعدي 75 مليار دولار، أي حوالي ثلاثة ارباع تريليون جنيه أخرى. بعد أن أضاف لها قرار راس الحكم العسكري مؤخرا 25 مليار دولار قرضا من الآتحاد الروسي بمبلغ 25 مليار دولار لإنشاء محطة نووية. يبدو التكلفة مضخمة بلا مبرر بادٍ وشروط القرض مجحفة (يبدأ السداد العام القادم ويفرض الاتفاق غرمة تأخير قدرها 150%).
وهكذا يتجلى داء الاقتصاد المُنذر بالكساد بأوضح أعراضه في تفاقم الاستدانة، في الداخل والخارج. إذ يمكن تلخيص الأداء الاقتصادي للحكم العسكري في إثقال كاهل المصريين بالقروض التي يعقد بقرار منفرد، بمعدل تريليون جنيه في كل سنة من حكمه.
ولابد من التوكيد على أن كل هذه أعباء تجلبها حكومات فاشلة وغير رشيدة على المصريين جميعا بما في ذلك الأجيال القادمة، الذين سيقع عليهم عبء سداد أصل الدين وفوائده أيضًا.
ومن المنتظر أن سيشدد إنهيار سعر النفط في السوق العالمي من إحكام خناق الكساد على الاقتصاد المصري من مدخل تهاوي الملاءة الاقتصادية لحكومة مصر عبر ابواب انخفاض قيمة صادراتها من البترو كيماويات، وتحول السفن الضخمة عن قناة السويس حيث اصبح طريق راس الرجاء الصالح حول إفريقيا اقل تكلفة نتيجة لانخفاض اسعار النفط، وضعف قدرة حلفاء الحكم العسكري في السعودية والخليج على تقديم العون للحكومة المصرية وتحوله، كما شهدنا في الاتفاقيات الأخيرة مع السعودية وغيرها من البلدان الخليجية إلى قروض وليس هبات. وعلى الأرجح ستلجئ هذه المشكلات الحكومة الفاشلة والفاسدة وغير إلى التزيد في الاقتراض من مؤسسات التمويل الدولة والدول الأجنبية، ما يفاقم من عبئ المديونية ومضار التبعية في آن واحد.
ما هو تفسير ذلك الخراب الاقتصادي الذي يجره الحكم التسلطي الفاسد على مصر وطنا وشعبا؟ كحال جميع الظواهر المجتمعية المركبة، يقع التفسير الوافي في شبكة من العوامل المتضافرة عل مستويات متعددة من التحليل المجتمعي. لكن لننشير إلى ما أعده السبب الرئيس.
يكمن التفسير أساسا في نمط الاقتصاد السياسي الذي بدأه انور السادات في مطلع ثمانينيات القرن الماضي تحت المسمى البراق “الانفتاح”، ولم يكن إلا مشروعا لإدماج مصر في الاقتصاد الرأسمالي العالمي وفي المشروع الصهيوني في المنطقة العربية، ولكن من موقع ضعف وتبعية للإدارة الأمريكية، من ثم الكيان الصهيوني الغاصب إسرائيل، في سياق نمط اقتصاد سياسي من الرأسمالية الاستغلالية والاحتكارية محليا. وتفرع عن نسق الاقتصاد السياسي هذا تكالب الحكومات المتعاقبة على الاستجداء والاقتراض من الداخل والخارج بدلا من اجتراح مشروع جاد للنهضة، في منظور تنموي مبدع على محاور الاقتصاد الإنتاجي والتنمية الإنسانية، بالاستثمار الكثيف في الرأسمال البشري واكتساب المعرفة.
وفي القراءة المتمعنة لهذا التفسير الموجز تكمن بداية مشروع تاريخي للنهضة الإنسانية في مصر يجنبها حال نجاحه مثل الكساد المحيق بها حاليا.