المثقفون والسياسيون العرب الذين أيدوا محاولة الانقلاب العسكري في تركيا، بذريعة حماية الديمقراطية والعلمانية، يذكّروننا بالموقف نفسه، وربما النخب نفسها التي أيدت انقلاب عبد الفتاح السيسي في مصر قبل عامين، وربما النخب نفسها، بالذريعة نفسها.
هل يمكن لـ”ديمقراطي” أن يؤيد انقلاباً عسكرياً ضد الديمقراطية ونتائجها، كي يحمي الديمقراطية؟ أين وصلت الحالة المصرية نفسها؟ ألم تعلن النخب السياسية الليبرالية واليسارية الصادقة التي انخدعت بالانقلاب رجوعها عن هذا الموقف؟
الديمقراطية تدافع عن نفسها بآلياتها، وطريق الاحتجاج السلمي والانتخابات هي التي تحمي الديمقراطية، وإذا كانت الطريق إلى العلمانية لا تمر إلا عبر الدبابات والطائرات ضد الشعب، فإنّ هذه علمانية قسرية، تمت تجربتها في العالم العربي وفي تركيا، فأتت بفساد ودكتاتورية وظلم وانقسام اجتماعي وثقافي كامن تحت الأرض.
من زاوية أخرى، لا يخرج ما يحدث اليوم عن مسلسل الصراع بين الثورة والثورة المضادة التي انطلقت في العالم العربي، لكبح جماح التغيير السلمي والديمقراطي، ولإعادة الشعوب إلى مرحلة الدولة القطرية الاستبدادية؛ فماذا كانت النتيجة؟ فوضى وحروب أهلية وصراعات داخلية وحكومات أكثر استبداداً مما كانت عليه الحال في العالم العربي قبل ثورات الربيع العربي.
ما هي أخطر نتيجة للثورة المضادة، ولممانعة الثورات السلمية في دول عربية كثيرة؟ هي باختصار الداعشية والدعشنة، فإغلاق الباب السلمي ومنع المسار الديمقراطي وتعزيز حالة الإحباط وخيبة الأمل ودفع شريحة اجتماعية من الشباب إلى الخيارات الراديكالية العدمية البائسة، وتعزيز حجج التيار المتطرف بأن التغيير لا يتم إلا عبر السلاح والعمل السري.
عندما سقط الرئيس المصري السابق، محمد مرسي، خرج زعيم القاعدة، أيمن الظواهري، بخطاب عما أسماه “صنم العجوة الديمقراطي”، والناطق باسم تنظيم داعش، أبو محمد العدناني، بخطاب “السلمية دين من؟” ليكرّرا المقولة نفسها بعدم جدوى الديمقراطية في التغيير.
لذلك، ما الرسالة الخطيرة التي يمكن أن تصل إلى الشعوب من نجاح الانقلاب، في ظل الظروف الراهنة في العالم العربي؟ إنها أكبر خدمة لتنظيم داعش وأنصاره، وتحويل المطالب الشعبية من الديمقراطية السلمية إلى تأجيج الصراع الدموي، وإضعاف التيارات السلمية المعتدلة (نسبياً)، وهو ما حدث فعلياً في العالم العربي لحظة الثورة المضادة، وما سيتجذّر ويتعزّز مع سقوط التجربة الديمقراطية التركية، على الرغم من كل الملاحظات المطروحة.
سيقول أصدقاء ومثقفون علمانيون عرب إنّ الفرق بين الديمقراطية في العالم الإسلامي والغرب أن سؤال العلاقة الدين بالدولة فصّل هناك لصالح العلمانية شرطاً لإقامة الديمقراطية، وهذه كلمة فضفاضة جداً، كما هو تعريف العلمانية نفسها، والجدل الكبير في ترسيم دور الدين في المجال العام، وهو سؤال ما يزال إشكالياً، حتى في الدول الغربية نفسها.
يتمثل الجانب الآخر الأكثر أهمية بالسؤال عن الطريق الذي أخذته الديمقراطية الغربية، حتى وصلت إلى هذه المرحلة من الاستقرار، والقبول بالعلمانية أرضية مشتركة للجميع، وهي طريق مرّت بمرحلة الإصلاح الديني، وهو إصلاحٌ يأتي عبر السياسات الدينية نفسها، ولم يتم عبر الدبابة والعسكر، فالرهان الديمقراطي يتمثل بتطوير فهم الناس للدين، ولتطوير تأويله بما ينسجم مع الديمقراطية وحقوق الإنسان وحرياته وكرامته، لا عبر القمع للحركات الإسلامية التي لم يؤدّ الرهان العلماني القسري إلى إضعافها في العقود الماضية، بل على النقيض من ذلك، جذّرت من وجودها الاجتماعي.
أحد الكتب المهمة التي تتناول التجربة الغربية في تعزيز الديمقراطية والعلمانية وحقوق الإنسان، وتجربة الإصلاح الديني، هو كتاب نادر الهاشمي “الإسلام والديمقراطية والليبرالية العلمانية” (ترجمته الشبكة العربية وهو قيد النشر). أنصح الذين يراهنون على الخيار العسكري بقراءته، لأنه يعيد قراءة التجربة الغربية عبر جدليةٍ مهمةٍ، تتمثل بفرضية رئيسة أن الإصلاح الديني المرتبط بتطوير مفهوم الحرية والقبول بالديمقراطية هو الممرّ الصحيح للديمقراطية التي نريد.
خلاصة القول: الثورة المضادة لن تأتي لنا إلا بما نراه اليوم في العالم العربي من مشهد كارثي، وما يحدُث في تركيا إما أنه سيعزّز الثورة المضادة أو سيكشف نتائجها أمام الجميع. هذا أولاً، وثانياً الموقف من سياسة أردوغان شيء ومن الانقلاب العسكري شيء آخر، من الضروري التمييز بينهما.