تعيش الأجواء السياسية مرحلة غير تقليدية من عدة وجوه،
أولاً، المرشحين للحزبيين الكبيرين في أمريكا غير تقليديين؛ يمثّل الحزب الديمقراطي (هيلاري كلينتون)، وهي شخصية مع أنها تحمل رؤى المؤسسة الديمقراطية التقليدية حيال أهم القضايا التي تهمّ الحزب مثل موضوع التنظيم الاقتصادي، والسيطرة على الأسلحة والميل للديبلوماسية وغير ذلك، إلا أن كونها امرأة سيجعل منها لوفازت أول امرأة تكون رئيسة للولايات المتحدة الأمريكية، وستكون أيضاً سابقة في فوز الديمقراطيين بثلاث ولايات متتالية وهو الشيء الذي لم يحصل في أمريكا منذ عقود. ويمِثّل الحزب الجمهوري (دونالد ترامب)، وهو شخص طارئ على الحزب تماماً، عارضته قيادات الحزب التاريخية منذ أول لحظة وسخروا منه وجعلوا منه مجالاً للتندر والسخرية.. ولكنهم رضخوا أخيراً للأمر الواقع ووجدوا فيها أقلّ الشرين لأجل محاولة منع الديمقراطيين من أن يفوزوا بالرئاسة. ترامب يخالف الكثير من الأفكار التقليدية للحزب الجمهوري ويستخدم خطاباً وإن كان العقل اللاواعي للحزب يمهّد له إلا أنه كان يتحاشاه لفترة طويلة، فأتى ترامب ليخاطب هذا العقل المضمر.
الآن، بعد أن صفى الجو تقريباً للمتنافسَين الرئيسيّين: دونالد ترامب، وهيلاري كلينتون، كثير من العرب والمسلمين أصبح يرى أن مجيء ترامب للبيت الأبيض وفوزه بالرئاسة مسألة وقت، وأنه فائز لامحالة وأن الأمور تتجه لهذا، خصوصاً بعد العمل الإرهابي الذي قام به مسلم وتم استغلاله من قبل ترامب لأجل ترسيخ دعوته العنصرية ولأجل دعم رويته تجاه المسلمين عموما، كمحاولة استغلال سياسي رخيص لأحداث الإرهاب.. لدرجة أن خطابه بعد الحادثة اتّسم بالتشفي من الخصوم ومهاجمة المخالفين السياسيين والانتهازية السياسية أكثر من الإدانة ومحاولة دعم المصابين أو التأثر بالحدث نفسياً واجتماعياً.
لأجل كل ذلك يرى الكثير خصوصاً من المسلمين أن ترامب في طريقه للبيت الأبيض لامحالة، ولكن هذا في الحقيقة تخمين غير دقيق على الإطلاق، نظرياً وتجريبياً.
تجريبياً وعملياً، إشارات قياس الرأي العام في أمريكا تؤكد تفوق كلينتون على ترامب في سباق الرئاسة بعشر نقاط، وهو فارق ليس سهلاً. صحيح أن الفارق كان أوسع (١٤ نقطة) في السابق، وتم تقليص الفارق بعد حدث أورلاندو الإرهابي الدامي، لكن لاتزال كلينتون متفوقة عملياً وواقعياً. لاشك أن الرهان لايزال مفتوح على كل الأصعدة والوقت مبكر جداً لتخمين دقيق، خصوصاً وأن أي أحداث على أي صعيد سواء سياسي، أو اقتصادي أو غيره قد يؤثر بشكل كبير في صناعة الرأي العام وقد يغير موازين القوى بشكل كبير. مع ذلك، لاتزال حتى اللحظة كلينتون تحظى بدعم الأغلبية حسب قياسات الرأي العام.
نظرياً وتحليلياً، كان الكثير يقول بأن ترامب قد يفوز لو اتخذ استراتيجية معينة، ألا وهي النظرية التي تقول لو أنه بعد أن يكسب ترشيح الحزب الجمهوري (وهو الشيء الذي فعله الآن) يحاول أن يقلّل من اندفاعه ويشكّل خطاباً يخفّف فيه من لهجته الحادة ونقده الشرس ويقدّم خطاباً يكسب فيه شريحة متوسطة وأصواتاً مترددة في المنتصف بين الحزبين والرأيين فسيكون ذلك طريقه الذكي لاكتساح شريحة أوسع، لكن بكل تأكيد ترامب لم يفعل ذلك حتى هذه اللحظة ولم يطوّر من خطابه تجاه هذه الشريحة الوسطى بعد، ولاتزال قاعدته الجماهيرية قريبة جداً من المحافظين المتطرفين وأصحاب الفوقية البيضاء ومجموعات معارضة للهجرة وللأجانب.. إلخ.
لكن، هل سيفعل ترامب ذلك ويحاول أن يجعل استرتيجيته المقبلة كسب شريحة متوسطة نوعاً ما بمحاولة تلطيف عباراته السابقة المثيرة للجدل تجاه النساء والأمريكيين الأفارقة واللاتينيين والمسلمين؟.. أم سيخسر قاعدته الجماهيرية لوفعل ذلك؟، ليس واضحاً مالذي سيفعله، لكن إقالته لرئيس حملته الانتخابية هذه الأيام قد يعني شيئاً جديداً. وبعد مسيرة طويلة لترامب من الاعتماد على مؤشرات قياس رأي غير موثوقة وصحافة صفراء تؤيده ونقله دائماً لاستبيانات غير دقيقة تؤكد تفوقه، لأول مرّة يعترف ترامب بأنه لايزال خلف كلينتون في قياسات الرأي العام.. وقد يكون إقالته لرئيس حملته السياسية قبل أيام نوعاً من الاعتراف الآخر بتفوق هيلاري كلينتون في قياس الرأي العام.. لدرجة أن الانتخابات الرئاسية لو أُقيمت هذه اللحظة لفازت كلينتون حسب هذه المؤشرات..
لكن من الآن إلى موعد الانتخابات الأمريكية في نوفمبر.. من يعلم مالذي سيحصل؟