ما إن أعلنت الحكومة المصرية عن نيتها تغيير قانون التظاهر حتى سارع كثيرون إلى امتداح الفكرة والحفاوة بالتصريحات التى حملتها وعبر عنها وزير الشئون القانونية المستشار مجدى العجاتى. ولا بأس من ذلك بطبيعة الحال، شريطة ألا ننسى أن ما بلغنا مجرد إعلان نوايا، العبرة فيه ليست فقط بالتنفيذ ولكن أيضا بالشكل الذى ينتهى إليه القانون بعد التعديل، أقول ذلك لأننا ورثنا تقليدا فى البيروقراطية المصرية يستعيض بالكلام عن الفعل وبتحرير الاستمارة عن انجاز المعاملة.
أدرى ان ثمة توجيها دعا إلى التركيز على الإيجابيات وإبراز الإنجازات، بوجه أخص مع حلول ذكرى انتفاضة ٣٠ يونيو. لكننى أفهم أن يكون المقصود به هو الأفعال التى تتم وليس التصريحات التى تطلق فى الفضاء الإعلامى. ولكى لا يساء فهم كلامى فأرجو أن يكون معلوما أننى لا أدعو إلى التشكيك فى التصريحات المتعلقة بالموضوع، لكننى فقط أدعو إلى استقبالها بترحيب حذر.
رغم أن المسألة لاتزال فى حدود الوعد والنية، فذلك وحده يعد سببا كافيا لتأكيد الحذر الذى أدعو إليه، إلا أننى لدى أسباب أخرى تعزز فكرة التريث وانتظار الأفعال، فى مقدمة تلك الأسباب ما يلى:
● أنه منذ صدور قانون التظاهر فى فترة الرئيس السابق عدلى منصور (عام ٢٠١٣) والشكوى المرة منه والارتياب فيه يتردد على ألسنة كل الحقوقيين وغيرهم من الوطنيين المهتمين بالشأن العام. وتصورنا فى لحظة تفاؤل أن البرلمان الذى يفترض أنه انتخاب المجتمع سيحمل تلك الشكاوى وسيفتح الملف، إلا أنه بعد انتخابه وطوال الأشهر الستة الماضية على الأقل لم يتطرق للموضوع من أى باب. وحين اقنعتنا ممارسات البرلمان بأنه يمثل الحكومة بأكثر مما يمثل المجتمع، فإن الرسالة التى تلقيناها من ذلك التجاهل والصمت هى أن المجلس سكت لأن الحكومة لا تريد. أما لماذا غيرت الحكومة رأيها فى الوقت الحالى فعلم ذلك عند الله. لكن ما تجدر ملاحظته أن الأجهزة التى كانت وراء إصداره ليست بعيدة عن الدعوة إلى تعديله، بعدما تبين أن الضرر من وجوده أكبر فى الداخل والخارج.
● السبب الثانى أن قانون التظاهر يحتاج لأكثر من مجرد التعديل، لأنه حافل بالألغام والمخالفات الدستورية سواء فى مصادرته لحق التظاهر السلمى أو فى تعسفه الذى قيد بمقتضاه حق التجمع وحرية التعبير أو فى العقوبة التى يقررها (تصل إلى خمس سنوات حبسا و١٠ آلاف جنيه غرامة). ثغرات بهذه الجسامة لا يعالجها مجرد التعديل لأن القانون إذا صدقت النية فى علاج آثاره إما أنه يحتاج إلى إلغاء وإما أنه ينبغى أن تعاد كتابته من جديد بروح مختلفة. وأظن أن الأجواء الراهنة لا تحتمل أيا من الخيارين. الأمر الذى يعنى أن الكلام عن التعديل قد لا يتجاوز نقاطا لا تمس عيوبه الجوهرية.
● السبب الثالث أن القانون يعبر عن سياسة للنظام القائم، وليس معزولا عن السياق العام ولا عن القوانين الأخرى المقيدة للحريات المعمول بها. ولأنه كذلك فلا سبيل إلى إجراء تغيير حقيقى عليه يعالج ثغراته ويخلصه من سوءاته إلا إذا تغيرت السياسة الداخلية، وأعطى الأمن حجمه الحقيقى فى إدارة الشأن العام. ولأننا فيما هو معلن على الأقل لا نكاد نلمس تغييرا يذكر فى توجهات السياسة الداخلية يمكن أن يقنعنا بأن ثمة انفراجا ديمقراطيا وحقوقيا قادما فى الطريق ــ فإن السؤال المنطقى والمشروع يصبح كالتالى: لماذا نتوقع أن تعالج ثغرات قانون التظاهر وتخفف قيوده ويرفع تعارضه مع الدستور، فى حين أن التشدد قائم فى مجالات أخرى. وهو ما نلمسه مثلا فى النزوع إلى قمع منظمات المجتمع المدنى من خلال القانون المعيب الذى بات يعرف بقانون «الأشياء الأخرى». كما أن ذلك قائم فى نصوص قانون الإرهاب الفضفاضة التى تلاحق أى ناشط، وفى محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية…إلخ.
ما أريد أن أقوله إن قانون التظاهر جزء من حزمة قوانين شكلت عدوانا وتقييدا سافرين على الحريات العامة، الأمر الذى أرسى واقعا يختلف بصورة جذرية عن ذلك الذى تطلعت إليه الجماهير التى خرجت فى ٢٥ يناير ٢٠١١، بل بدا صادما لكثيرين من الوطنيين الذى خرجوا فى انتفاضة ٣٠ يونيو ٢٠١٣.
إذا صح ذلك التحليل فإنه ينبهنا إلى أننا بصدد حالة أكبر بكثير من قانون المظاهرات، وأن القضية الأساسية تكمن فى طبيعة الرؤية السياسية والموقف من الحريات العامة، أى فى حسم الاختيار بين دولة الحق والعدل ودولة الأمن. وما لم يتم ذلك الاختيار لصالح الأولى. فأى كلام عن تعديلات سيظل من قبيل تجميل الواجهة وتغيير الطلاء وتحسين شروط البقاء فى داخل القفص، وذلك لن يحل الإشكال الأساسى الذى مصدره القفص ذاته.