دأبت غالبية الروايات التاريخية التي تعرضت لتلك الحقبة المصيرية من تاريخ مصر الحديث، على حصر الصراع بين اللواء محمد نجيب، أول رئيس للجمهورية المصرية، ونائبه البكباشي جمال عبدالناصر عامي 1953 و1954، في اختلاف رؤية كل منهما لقضية الديموقراطية؟ كان نجيب يؤمن بنظرية الجيش «الحارس»، أو «الضامن» لعملية التحول الديموقراطي من دون انخراط في العملية السياسية بعد الثورة، ومن ثم طالب بضرورة عودة الجيش إلى ثكناته وترك مهام الحكم للأحزاب والقوى المدنية، التي كان يفترض أن تأخذ على عاتقها تأهيل الشعب لاستكمال مسيرة التحول الديموقراطي بالتوازي مع جهود بناء الدولة.
في المقابل، كان عبدالناصر لا يثق بالنخبة المدنية وقتذاك، ويعتبرها سبباً رئيساً لتدهور أوضاع البلاد على النحو الذي أفضى إلى اندلاع الثورة، ومن ثم رأى ضرورة استئصال تلك النخبة، بأفرادها ومؤسساتها، من المشهد السياسي وإقصائها عن الحكم حتى لا يعاد إنتاج المأساة مجدداً، كما كان يرى ضرورة تأجيل الديموقراطية السياسية إلى حين تأمين الثورة وتحقيق أهدافها الاقتصادية والاجتماعية بما يساعد على بناء الدولة، في سياق ما سمّاه في كتابه «فلسفة الثورة» بـ»الديموقراطية الاجتماعية».
غير أن التأمل الدقيق في مجريات الصراع بين ناصر ونجيب من زوايا متعددة يفصح عن أبعاد أخرى، لعل أبرزها: غياب الكيمياء السياسية بين الرجلين ربما بسبب الفجوة الجيلية بينهما، أو بجريرة الشخصية القيادية والطموحة لكل منهما في مواجهة الآخر، وشعور ناصر بأن صلابة نجيب وكاريزميته قد أسهمتا في تهميش دور الضابط الشاب وإجهاض تطلعاته ومشاريعه السياسية، برغم ما بذله من جهود مضنية في تأسيس تنظيم «الضباط الأحرار» وتجشم مغامرة التحضير للثورة وإنجاحها.
كان المُعلَن أن نجيب هو قائد الثورة، بينما ظلت السلطة الفعلية بيد مجلس قيادتها برئاسة جمال عبدالناصر؛ حتى ٢٥ آب (أغسطس) ١٩٥٢ عندما صدر قرار من المجلس بضم نجيب إلى عضويته، ثم أُسندت إليه رئاسته بعد أن تنازل عنها عبدالناصر مراعاة لفارق لسن والرتبة العسكرية، ولعدم إثارة استهجان الشارع. وفي ١٨ حزيران (يونيو) ١٩٥٣ أصدر المجلس ذاته قرار إلغاء الملكية وإعلان الجمهورية، وإسناد رئاسة الجمهورية، إلى نجيب بجانب رئاسته للوزارة التي شغلها منذ ٧ أيلول (سبتمبر) ١٩٥٢. أما جمال عبدالناصر، فقد تولى أول منصب عام كنائب لرئيس الوزراء ووزير للداخلية في الوزارة التي تشكلت بعد إعلان الجمهورية وفي الشهر التالي ترك جمال عبدالناصر منصب وزير الداخلية ليتولاه زكريا محيي الدين، واحتفظ بمنصب نائب رئيس الوزراء.
إذاً؛ لم يخل الخلاف بين ناصر ونجيب من صراعٍ على الاختصاصات والصلاحيات، كما السلطة والحكم، الأمر الذي بدا جلياً في بيان مجلس قيادة الثورة في ٢٥ شباط (فبراير) ١٩٥٤، والذي جنح لإبراز الطابع الشرفي لدور نجيب في الثورة.
وربما تملك عبدالناصر، الذي يرى أنه المفجر الحقيقي للثورة، إحساس بالغبن جراء الحفاوة التي حظي بها نجيب داخل البلاد وخارجها؛ لذا بدأ التخطيط منذ منتصف عام 1953، لإزاحته عن السلطة، التي كان يعتبرها حقاً مشروعاً له. وتجلت أولى خطوات الأخير لبلوغ مآربه في السيطرة على القوات المسلحة باعتبارها عنصر الحسم لأي صراع على السلطة والحكم، لذا أبى قبل إعلان إلغاء الملكية وقيام الجمهورية في 18 حزيران 1953 وتولي نجيب رئاسة الجمهورية، إلا أن ينتزع قيادة القوات المسلحة منه وإسنادها لصديقه الحميم وموضع ثقته عبدالحكيم عامر، بعد ترقيته بالتزامن من رتبة رائد أركان حرب إلى لواء أركان حرب دفعة واحدة، رغم اعتراض نجيب وداعميه.
كذلك، عمد مجـلس قيادة الثورة في بيانه إلى إدانة نجيب عبر اتهامه بالنهم للمناصب والصلاحيات بينما البلاد تكافح المحتل الأجنبي في مصر والسودان وتناهض عدواً غادراً يرابط على حدودها الشرقية، بالتوازي مع خوضها معركة اقتصادية مريرة وإصلاحاً لأداة الحكم، ضارباً عرض الحائط بمبادئ المجلس الحريصة على توفير أقصى الضمانات لتوزيع السلطة على أعضائه مجتمعين. لذا، قرر مجلس قيادة الثورة بالإجماع قبول استقالة نجيب من الوظائف كافة التي كان يشغلها.
كان ناصر لا يزال في مطلع الثلاثينات من عمره، حيــنما اندلعت الثورة، فيما كان نجيب قد جاوزَ الخمسين. وبدت فجوة الأجيال بينهما، في بيان مجلس قيادة الثورة، حين ذكر: «قرر الضباط الأحرار وقت تحضيرهم للثورة في الخفاء أن يقدموا للشـــعب قائداً للثورة من غير أعضاء مجلس قيادتهم وكلهم من الشبان، واختاروا فعلاً في ما بينـــهم اللواء أركــان حرب محمد نجيب ليقدم قائداً للثورة، وكان بعيداً عن صفوفهم، وهذا أمر طبيعي للتفاوت الكبير بين رتبته ورتبهم، وسنه وسنهم، وكان رائدهم في هذا الاختيار سمعته الحسنة الطيبة وعدم تلوثه بفساد قادة ذلك العهد».
ويبدو أن الضباط الشباب المفعمين بالحماسة كانوا غاضبين من البطء المستفز في إيقاع نجيب، الأمر الذي غذى نزعات أولئك الشباب للإطاحة به. وفي مسعى منه لتقليم أظافر نجيب، سعى ناصر للاستقواء بأصدقائه المقربين وأبناء جيله عبر إسناد مناصب حسَّاسة إليهم بعد سلبِها من نجيب، فكان القرار الجمهوري بترفيع عبدالحكيم عامر وتعيينه قائداً عاماً للقوات المسلحة، ليشرع بعدها في إبعاد باقي أعضاء مجلس قيادة الثورة عن أسلحتهم بذريعة إفساح المجال للقائد العام، كما عمدوا إلى عزل ضباط الأسلحة عن ممثليهم في مجلس قيادة الثورة. ونجح عبدالناصر بالاشتراك مع عامر في تكوين مجموعات داخل مختلف أسلحة الجيش من الضباط المتوسطي الرتب المنتمين إلى «الضباط الأحرار»، وهي المجموعات التي عهد إليها أداء أدوار مهمة في أزمتي شباط وآذار (مارس) 1954، إذ أجهضت المساعي الرامية إلى حل مجلس قيادة الثورة أو إعادة العمل بالدستور والحريات والحياة النيابية في البلاد. كما عملت على استبقاء السلطة في أيدي عبدالناصر وعامر وباقي أعضاء المجلس؛ إيماناً بأن ذلك هو السبيل الأمثل لإنقاذ الوطن.
كذلك، برز الموقف من مرحلة ما قبل تموز (يوليو) 1952، كأحد العوامل المؤججة للصراع بين ناصر ونجيب، ففيما جنح ناصر ورفاقه في إحداث قطيعة تامة مع الماضي، الذي كانوا يعتبرونه فاسداً برمته وسبباً في تخلف البلاد، كان لنجيب وبعض أعضاء مجلس قيادة الثورة رأي آخر يتمثل في استحالة طي صفحة الماضي كلية مع إمكانية الاستفادة من بعض الإيجابيات التي كانت قائمة قبل الثورة والبناء عليها، كالحوار مع بعض الشخصيات السياسية مثل مصطفى النحاس، علاوة على استبقاء الأحزاب والحركات السياسية المدنية، بما فيها جماعة الإخوان المسلمين، التي لم يتورع ناصر عن اتهام نجيب بالتواصل معها بعد الثورة، ثم بالتنسيق معها لتصفيته في الإسكندرية أثناء إلقاء خطابه الشهير هناك في ٢٦ تشرين الأول (أكتوبر) ١٩٥٤.
وعلى رغم محاولة تدارك مظاهر الخلاف بين ناصر ونجيب، ولو ظاهرياً، بقبول مجلس قيادة الثورة عودة الأخير لرئاسة الجمهورية من دون مناصب أخرى، عبر بيان صدر في ٢٧ شباط ١٩٥٤، مع تولي جمال عبدالناصر رئاسة مجلس الوزراء في ١٧ نيسان (أبريل) من العام ذاته، جاءت محاولة اغتيال الأخير على يد جماعة «الإخوان المسلمين»، وما أشارت إليه التحقيقات وقتها، من وجود اتصالات بين نجيب وقيادات إخوانية لا تستبعد تأييده مساعيهم لقلب نظام الحكم، لتصعد بمستويات الصراع إلى ذروته. وهكذا؛ قرر مجلس قيادة الثورة في ١٤ تشرين الثاني (نوفمبر) ١٩٥٤ إعفاء نجيب من مناصبه كافة وتحديد إقامته ليبقى خارج الحياة العامة حتى وفاته في آب 1984، على أن يظل منصب رئيس الجمهورية شاغراً وأن يستمر مجلس قيادة الثورة في مباشرة سلطاته بقيادة جمال عبدالناصر، حتى تولى الأخير منصبه كثاني رئيس للجمهورية بموجب استفتاء شعبي أُجري في 24 حزيران 1956.