شكلت حرب صيف 2014م مفصلا في شكل المواجهة بين الاحتلال الإسرائيلي، والمقاومة التي تمثلها “حماس” في غزة، بعد الكشف عن سلاح الأنفاق الذي أربك حسابات جيش العدو الإسرائيلي، وأوقع خسائر فادحة في صفوف ضباطه وجنوده.
وحصرت “إسرائيل” أهداف الحرب الأخيرة في تدمير الأنفاق الهجومية لحماس، وزعمت بعد 51 يوما من المواجهة العسكرية أنها وجهت ضربة قاصمة لما أسمته “سلاح حماس الاستراتيجي الأنفاق”.
ولم تأبه حماس لمزاعم الجيش، وواصلت ترميم وتطوير قدراتها العسكرية استعدادا لمواجهة عدو “لا يؤمن مكره” في أي لحظة، في الوقت ذاته أنفق الاحتلال أكثر من مليار شيقل لتدمير الأنفاق التي تعتبرها تهديدا استراتيجيا لها، دون الحاجة إلى حرب دموية.
وشهدت الفترة الماضية هدوءا على جبهة غزة، فيما استعرت جبهات الإعلام الإسرائيلي، بالحديث عن الأنفاق وجهود حركة “حماس” نحو تطويرها، ومساعي الاحتلال لتدميرها، ومع ارتفاع أصوات المستوطنين في غلاف غزة بالشكوى، تصاعدت معها التصريحات الإسرائيلية، وأبرزها ما جاء على لسان الوزير نفتالي بنيت، بضرورة توجيه ضربة استباقية لأنفاق حماس الهجومية، وهي تصريحات رفضها نتنياهو ووزير حربه يعلون، على اعتبار أنها تعرض دولة “إسرائيل” للخطر، في الوقت نفسه أكدا أن “إسرائيل” تولي الأنفاق أولوية كبيرة، وتبذل جهودًا استخبارية وتكنولوجية لتدميرها.
وكان جيش الاحتلال قد عثر، الشهر الماضي، على نفق شرق رفح، قال إن حفره يعود إلى ما قبل الحرب الأخيرة، واعتبر نتنياهو الاكتشاف إنجازا عالميا، وحاول استثماره لتهدئة المستوطنين الغاضبين، من جانبها لم تستخدم “حماس” النفق كما كانت تتنبأ الأوساط الإسرائيلية في حال اكتشاف أي نفق، واكتفت القسام بالتأكيد أن النفق المكتشف ما هو إلا نقطة في بحر ما تعده لمواجهة الاحتلال، واكتشاف النفق فتح شهية الاحتلال الذي كثف من أعمال العسكرية على حدود القطاع الشرقية، وتركزت حفرياته في الجنوب.
توقعات بصيف ساخن
يكتب يوآب ليمور، في “يسرائيل هيوم” أن التصعيد في قطاع غزة كان مكتوبا على الحائط، كما يقول المثل، لقد استعد له الجيش، واستعدت له حماس، وكل ذلك من دون أن يرغب فيه أي طرف فعلا، ويرتبط استمرار وقوة هذا التصعيد الآن بعدة أسباب، ستحدد ما إذا كنا سنصل إلى طبعة جديدة من حملة “الجرف الصامد”.
وتبرز أحداث اليوم الأخير بالذات على خلفية معطيات العامين الأخيرين، ولقد تم إطلاق أقل من 40 قذيفة على “إسرائيل”، وعدد المصابين الإسرائيليين كان الأقل في تاريخ المواجهة، كما حظي سكان غلاف غزة بفترة مريحة تم خلالها استيعاب عشرات العائلات الجديدة، وقام المزارعون بفلح أراضيهم حتى المتر الأخير، وملأ السياح نزل الضيافة.
لكن “حماس” حفرت بجهد تحت هذه المثالية، ومفاهيمها من الجرف الصامد كانت واضحة: لقد فشلت على الأرض وفي الجو، لكن إسرائيل لا تملك ردا على التحدي الذي تطرحه تحت الأرض. وتم إيلاء الأولوية لمشروع الأنفاق؛ تم زيادة عدد الحفارين بشكل كبير، وكذلك الميزانيات، وكان الهدف: استكمال عشرات الأنفاق الهجومية الممتدة إلى أراضي إسرائيل، وحفر مئات الانفاق الدفاعية، داخل القطاع، للاختباء فيها أثناء الحرب.
هذا الجهد الحمساوي لم يكن خافيًا على “إسرائيل”، التي اعتبرت الأنفاق أكبر تهديد خلال سنة العمل الحالية، وتم زيادة الجهد الاستخباري (الشاباك وشعبة الاستخبارات) والجهد التكنولوجي، وكان من الواضح أن المقصود سباق مع الزمن، و كشف الأنفاق قبل قيام حماس باستخدامها.
وفي الشهر الماضي تم كشف أول نفق في جنوب القطاع، لكن حماس قررت، لأسبابها الخاصة، التخلي عنه، وفي أعقاب هذا الكشف تم زيادة الجهود المبذولة لكشف الأنفاق الأخرى، ويمكن التكهن بأن هذا هو سبب تبادل الضربات يوم أول أمس، فالجيش الإسرائيلي يحفر ويحاول الاكتشاف، و”حماس” تطلق النار للتشويش والتحذير.
في هذه الأثناء تجري هذه الضربات على ملعب محدود جدا، حماس تطلق النار فقط على أهداف عسكرية بذريعة أن الجيش يجتاز السياج الحدودي ويتوغل في أراضي القطاع، و”إسرائيل” ترد بشكل محدود ضد أهداف عسكرية لحماس، من خلال التأكد من إيقاع أقل عدد من الإصابات، أو عدمها، لكي تضمن عدم حصول رد على الرد ، وقامت بإغلاق الشوارع في منطقة ناحل عوز بهدف تقليص الخطر على المدنيين، إذ أنه خلال فترة توتر مشابهة في السابق، تم إطلاق صاروخ على باص لنقل الطلاب”.
ظاهرًا، يدل التصعيد المحدود على عدم رغبة الجانبين بتوسيعه، لكنه تستتر وراء ذلك محفزات قابلة للانفجار بشكل كبير، والمعطيات الأساسية في القطاع أسوأ من تلك التي جعلت حماس تخرج للحرب قبل عامين: البطالة تفاقمت، الناتج القومي للفرد انخفض، عشرات الآلاف افتقدوا بيوتهم، الكهرباء تصل لمدة ثماني ساعات يوميا، والمياه مالحة، ومئات الآلاف يعتمدون على تنظيمات المساعدات لتوفير الطعام والدواء، والأسوأ من ذلك كله – غزة محاصرة، لا أحد يخرج منها ولا احد يدخل، ولا يبدو في الأفق صدور قرار مصري بفتح معبر رفح.
ويمكن أن نضيف الى ذلك، التجاهل من قبل دول الغرب (المنشغلة معا بداعش وإيران)، المواجهة المتواصلة مع السلطة الفلسطينية، موجة الارهاب في الضفة والتهديد الضعيف، ولكن المتواصل من قبل جهات متطرفة تتحدى حماس في بيتها. هذا كله، إلى جانب التهديد الإسرائيلي الحالي لمشروع الأنفاق، يمكن أن تجعل حماس تقرر أنه لم يعد لديها ما تخسره.
يمكن الافتراض بأن هذا لن يحدث غدا، ولكن يجب عدم الوقوع في الخطأ: نحن نتواجد في ديناميكية سلبية، يرتفع فيها مستوى التشكك بشكل حاد، وترتفع معه محفزات التصعيد الحاد، في ظل هذا الوضع لا حاجة لأن تكون راصدا جويا كي تقدر بأن الجنوب سيشهد صيفا ساخنا هذه السنة.
خطوط حماس حمراء
ويكتب عاموس هرئيل، في “هآرتس” ان عمليات إطلاق النار الخمس على حدود القطاع، أول أمس، تعكس أخطر تصعيد منذ انتهاء الحرب الأخيرة بين إسرائيل وحماس، في نهاية آب 2014م، لكن هناك أهمية اخرى للتطورات في غزة، لأول مرة منذ الحرب، يبدو أن الذراع العسكرية لحماس تقف، مباشرة او غير مباشرة، وراء إطلاق قذائف الهاون والنيران الخفيفة باتجاه قوات الجيش الإسرائيلي، الأحداث لم تنته بعد، لكنه يبدو أن هذه محاولة من قبل حماس لتحديد خطوط حمراء لإسرائيل، على خلفية الجهود التي يبذلها الجيش لكشف الانفاق الهجومية التي حفرها التنظيم تحت الحدود، باتجاه الاراضي الاسرائيلية.
وطوال أكثر من سنة ونصف، بعد “الجرف الصامد” كرر المتحدثون الاسرائيليون، خلال تصريحات للصحفيين وامام الميكروفونات، الموقف ذاته: حماس منيت بضربة لم تعرف مثلها من قبل، ولذلك تم ردعها منذ ذلك الوقت. ولا يتوقف الامر على عدم قيام التنظيم بإطلاق النيران باتجاه اسرائيل منذ انتهاء الحرب، وانما يعتبر عدد الاحداث التي وقعت على حدود القطاع، هو الأدنى منذ اكثر من عقد زمني. وحين يقوم فصيل فلسطيني صغير، غالبا من التنظيمات المتماثلة مع التيار السلفي، بفتح النيران، تسارع أجهزة حماس إلى كبحه.
هذا التحليل -الذي جاء آخر تعبير له على لسان رئيس الحكومة بعد زيارته امس الاول (الثلاثاء) إلى النفق الذي كشف النقاب عنه في اواخر أبريل- كان صحيحا حتى لم يعد صحيحا، فحتى الان لم يعلن احد مسؤوليته عن أحداث إطلاق النيران الأخيرة، لكن قوتها النسبية، وحقيقة توجيه النيران إلى قوات الجيش الاسرائيلي التي تبحث عن الانفاق قرب السياج، مقابل حي الشجاعية في شرق غزة، وفي منطقة كيبوتس حوليت، الذي عثر على النفق الأخير في أرضه، تدل كما يبدو، على مسؤولية حماس عن إطلاق النيران، وحتى اذا اختار التنظيم التستر هذه المرة وراء تنظيم سلفي معين، فانه من الصعب التصديق بأن خمسة احداث تقع في يوم واحد دون ان ترغب بها السلطة الوحيدة في القطاع.
ما يحدث هنا هو لعبة تحذير متبادلة بين الطرفين، في اطار محاولة كل طرف اعادة تحديد ميزان الردع الذي تم رسمه في اعقاب “الجرف الصامد”، حماس تعرف بأن إسرائيل كشفت نفقا هجوميا واحداً وترى نشاطات اخرى تحدث غربي الجدار داخل اراضي القطاع، وتسمع التصريحات عن الحل التكنولوجي الكامل لكشف وتدمير الأنفاق، والذي يتوقع الانتهاء منه خلال عامين. وفي مثل هذه الظروف، تتأرجح قيادة التنظيم بين التهديد المستقبلي والخطر الفوري. التهديد المستقبلي هو ان اسرائيل ستسحب من ايدي حماس، بشكل منهجي، ورقة الأنفاق، والخطر الفوري يكمن في قرار التبكير في العمل، والذي سيجر الطرفان بشكل شبه مؤكد نحو جولة اخرى من الحرب، ستمنى خلالها حماس بخسائر باهظة، وسيضطر الجمهور الغزي الى مواجهة كارثة انسانية رابعة (بعد “الرصاص المسكوب”، “عامود السحاب”، و”الجرف الصامد”)، خلال اقل من ثماني سنوات.
لا نملك صورة كاملة حول الأحداث، لكنه يبدو حاليا ان حماس تمتنع عن الحسم. اطلاق النار من القطاع لا يزال بمثابة علامة تحذير، وليست دعوة لحرب شاملة، في الخلفية، تقف، ايضا، مسألة القطاع الامني الفاصل. بين “الرصاص المسكوب” في 2009، و”عامود السحاب” في 2012، اتفقت الأطراف، بوساطة مصرية، على حق اسرائيل بالقيام بنشاطات دفاعية داخل اراضي القطاع، في منطقة فاصلة يصل عرضها الى 500 متر غربي السياج. وبعد “عامود السحاب”، وبناء على طلب مصري، وافقت اسرائيل على تقليص المساحة الى عرض 100 متر فقط. وليس من المستبعد ان هذا القرار سهل على حماس حفر 33 نفقا هجوميا كشف عنها الجيش قرب السياج خلال “الجرف الصامد”، ويبدو الآن ان حماس تسعى الى احباط العمل العسكري حتى داخل مساحة المئة متر.
إسرائيل تعرف الأبعاد الممكنة لعملها الأخير، لكنه يبدو أنها لا تستطيع عدم إزالة التهديد إذا اكتشفت وجود أنفاق أخرى تم حفرها باتجاه أراضيها، في الخلفية، تقف، أيضا، شروط الحياة الخطيرة في القطاع. خلال الشهر الأخير أوقف الجيش تحويل الأسمنت الى القطاع، بعد أن اتضح ثانية بأن حماس تستغل جزء كبيرًا من الأسمنت لمشروع الأنفاق، لكنه كانت لهذه الخطوات ابعاد أخرى، فقد توقف ترميم آلاف البيوت التي تم تدميرها خلال الحرب الأخيرة، وبقي آلاف عمال البناء الغزيين بدون عمل، هذه أيضًا ظروف يمكن أن تقرب اندلاع مواجهة عسكرية أخرى.
إلى ذلك تبين من فحص النفق الذي تم اكتشافه مؤخرًا، أنه أحد الأنفاق التي تم حفرها قبل الجرف الصامد، ما يعني أن “إسرائيل” لم تدمر كل الأنفاق خلال الحرب، وتم خلال العملية تدمير 33 نفقا هجوميا، وفي الجهاز الأمني يفهمون ان احد الدروس المستفادة لدى حماس من الجرف الصامد هو ان الانفاق تعتبر اكثر اسلحتها فاعلية، وفي الجانب الاسرائيلي كان لهذه الانفاق تأثير كبير حيث قتل 16 جنديا اسرائيليا في عمليات تم تنفيذها عبر هذه الانفاق. ومنذ عملية الجرف الصامد استثمر الجيش الإسرائيلي اكثر من 600 مليون شيكل لمواجهة هذا التحدي الجوفي.