قالوا قديما إن “مصر هبة النيل”، وطوّر بعضهم تلك المقولة، فقالوا إن “مصر هبة المصريين”، تأكيداً على أن البشر هم الذين يحفظون النيل، وهم الفاعلون الأساسيون في حركة العمران والإنماء. ويتهكم بعضهم على ما قاله عبد الفتاح السيسي حول مياه المجاري ومعالجتها مياهاً للشرب أنه، في عهد المنقلب الفاشل، فإن مصر تصير “هبة للمجاري”.
على الرغم من أن مصر تعتمد على نهر النيل في تغطية أكثر من 97 % من احتياجاتها المائية، إلا أنه يبدو أن الحكومات المصرية المتعاقبة لم تتعامل مع ملف حوض النيل بالجدية والاهتمام اللذين يستحقهما، يمتد نهر النيل مسافة 6650 كيلومتراً من منابعه الاستوائية إلى مصبّاته في البحر المتوسط، مارًا وفروعه بإحدى عشرة دولة، مصر والسودان وجنوب السودان، وتعرف بدول المصب، وإثيوبيا وأوغندا وكينيا وتنزانيا ورواندا وبوروندي والكونغو الديمقراطية وأرتيريا، وتعرف بدول المنبع.
أعاد الأمر موضوع بناء إثيوبيا سد النهضة، وما يحمله ذلك من مخاطر عميقة على الأمن القومي المصري. وفي حديثٍ أولي عن مخاطر السد، ذكر خبراء أن آلاف الأفدنة سيتم تبويرها في مصر، التي ستفقد أكثر من ثلث مواردها المائية، ما سيؤدي إلى دخولها في مرحلة الجفاف المائي.
أضف إلى ذلك أن الكهرباء التي تنتج عن السد العالي ستنخفض بشكل كبير، مما سيؤثر على قطاع الكهرباء المصري، والذي يعاني من أزمة طاحنة، بسبب نقص الوقود وتزايد الاستهلاك.
وقال الخبراء إن تأثر قطاع الكهرباء وقطاع الزراعة سيؤدي إلى انهيار اقتصادي حاد، حيث يؤثر قطاع الزراعة على المحاصيل الأساسية التي يعتمد عليها السكان في غذائهم، كما تعتمد عليها الدولة، في الحصول على العملة الأجنبية عن طريق التصدير، بينما سيؤثر الانهيار في قطاع الكهرباء على الأنشطة التجارية والصناعية بشكل كبير، حيث تعتمد المحلات التجارية والمصانع على الكهرباء في نشاطها. وتثير الأضرار المبدئية، التي تحدث عنها الخبراء، الفزع، وتهدد بانفجار اجتماعي واقتصادي، في بلدٍ يزداد فيه معدل الفقر بصورة كبيرة، وتشهد توتراً سياسياً ملحوظاً، كما يشير بعضهم في تقارير حول سد النهضة وتأثيراته على مصر وشعبها.
وقد حمّل الكاتب، فهمي هويدي، الدولة المصرية الجزء الأكبر من المسؤولية عن استفحال الأزمة مع دول حوض النيل، ونبه إلى أن فشل المفاوضات مع دول حوض النيل درس جديد لمصر، يذكّرها بأنها يجب أن تأخذ متطلبات أمنها القومي على محمل الجد، وأن “الفهلوة” و”الفكاكة” لا يمكن أن تكونا بديلاً عن الاستراتيجية.
ليس الأمر هيناً، ولا يحتمل التراخي أو الهزل، فالموضوع مياه النيل التي تعتمد عليها مصر بنسبة 95 %.
وحين يكون الأمر كذلك، فهو يعني أننا نتحدث عن مصدر الحياة في هذا البلد منذ دبّت فيه الحياة.
صار مجرى النيل مهدداً، فماذا فعل المنقلب، على الرغم من كل تلك المعطيات؟ وقع اتفاقاً تنازلياً اعترف بحق إثيوبيا في بناء السد، تهدد النيل الذي هو هبة لمصر، وتهدد المصريين فيما يمس أساس معاشهم، فكان مفرطاً مستهيناً بما لا يُستهان به.
استندت إثيوبيا في هذا الاتفاق إلى كل ما تفعل من مشاريع، ليس فقط في ما يتعلق بسد النهضة. ولكن، بمجموعات سدود أخرى، ربما تنوي الشروع فيها، إن لم تكن قد شرعت بالفعل، وأن دولاً أخرى من دول الحوض تهم بإنشاء سدود تخصها، وهو ما سيؤثر حتماً على حصة مصر المائية، والتي لم تؤمن منظومات الري والسياسة الخارجية أمنها المائي، بطرائق متعددة وفاعلة، تعاونية كانت أم تنظيمية عند اختلافها وتنازعها، واستنامت هذه المنظومات في حالة فاضحة من الإهمال والإغفال.
فمرت تلك المشاريع على طريقة الأمر الواقع، ومن دون أية استراتيجيات مائية، تقوم على مراعاة المنافع المتبادلة، وبناء سبل المصالح المشتركة ومسالكها. لم يعد جريان النيل حراً أو طبيعياً، تصرّف فيه المنقلب تصرّف خيانة الأمانة، لمصالح استراتيجية هي من الخطوط الحمر، التي لا يجوز التنازل عنها أو فيها.
في المشهد الأخير، يصرخ المنقلب السيسي على المصريين: “مفيش تشربوا مياه غير لمّا تدفعو. مشكلة سد النهضة هي مشكلة متوقعة وغير متوقعة؛ وإثيوبيا رفضت مقترحاتنا لحلول سد النهضة الإثيوبي”.
وقال أيضاً: “المياه عندنا شاحة جداً وأنا مش هقدر أدفعلكم حقها، ولازم إنتو اللي تدفعوا كل الفلوس، وتساعدوني في فلوس تانية”. وقال أيضا منفعلاً ، في افتتاح مشروعات خدمية ووحدات سكنية في مدينة السادس من أكتوبر:”أقول لكل مصري لما تفتح الحنفية اسأل نفسك المية دي بتكلف الدولة كام؟ محدش بعد كده يجي يشتكي، ويقولي أسعار الكهرباء غالية أو المية غالية، لأن الدولة بتتحمل كتير، وكل اللي بيدفعه الناس أقل بكتير من التكلفة”.
ضمن ما اعتمده السيسي المنقلب من سياسةٍ له، محاربة كل الفقراء، وطردهم خارج مصر، فهم أخطر من الإرهاب، وهم على حد قوله “أخطر من الفاسدين؛ ويجب معاملتهم بقسوة، حتى لا ينشأ جيل فقير أمثالهم”.
وقال أيضاً إنه يجب محاربتهم، حتى لو تطلب الأمر أن يخرجوا خارج مصر، فهم أخطر من الإرهاب، دعم الفقراء أخطر على اقتصاد مصر من الفساد”، ولا يوجد عنده كلمة واحدة للشعب “مفيش مفيش”.
ما بين الإعلان عن اكتشاف خزان النوبة “القديم- الجديد”، والذي يكفي مصر 100 عام، واستخدام تقنية المعالجة الثلاثية لإعادة استخدام مياه المجاري والصرف الصحي، يبدو أن النظام قد أقر بالتنازل عن حقوق مصر التاريخية في مياه النيل، لصالح إثيوبيا.
أمره بين التفريط في مياه النيل، وفناكيشه للتغطية على فشله في البئر المتوهم. وأخيراً، إذلال شعبه بإنذارهم بشرب مياه المجاري بعد معالجتها. إنها سياساته الفجة التي اعتاد عليها، بعد أن تيقن من أن العطش بات وشيكاً، وأنه لا بد من البحث عن بدائل لمواجهة السنوات العجاف المقبلة.
جاء الإعلان عن معالجة مياه الصرف الصحي ليشربها الشعب، مياه المجاري للشعب و”مياه إفيان” للسيسي.