تقترب الذكرى السنوية لثورة الخامس والعشرين من يناير وقد بدت السماء ملبدة بالغيوم غير محملة بالأمطار على القاهرة وعلى عموم مصر والعالم العربي، الذكرى تمثل رمزا وقيمة وجدانية وأخلاقية وثورية لكل شعوب العالم العربي، صحيح أنها توجت حصادها في مصر ونثرت عباب الحرية في كل العالم ولكن ليس لوقت طويل.
ولابد أن الكثيرين منا اليوم يتحسرون ويعضون أصابع الندم على ضياع فرصة كانت كفيلة أن تصنع من تراب الأرض ذهبا خالصا ومن الغد القريب مستقبلا ناصعا ولكن عسى أن تكون الملمات حبلى بالمسرات وعسى أن تتحول المحنة الى منحة والألم الى أمل وفرج، وكما يقال عسى فرجا يكون عسى نعلل أنفسنا بعسى فلا تقنط وان لاقيت هما يقبض النفسا فأقرب مايكون المرء من فرج اذا يئسا.
والحقيقة إن النكوص الذي حدث والعودة إلى الوراء أو أشد مما كان عليه الحال جاء لعدة أسباب وتعقيدات، فثورة الخامس والعشرين من يناير، وبالرغم من كونها ثورة شعبية خالصة إلا أنها كانت مخترقة منذ البداية وركبها مجموعة كبيرة من الإنتهازيين والسياسيين والمخبرين الذين أدركوا بعد الإنتخابات البرلمانية في 2009 أن هناك مرحلة شارفت على النهاية وأن عهد الرئيس مبارك قد شارف على الإنقضاء.
بل إن إسقاط حسني مبارك والكثير من اركان نظامه كان هدفا مشتركا بين غالبية الشعب المصري الذي أنهكه الفقر والبؤس والأفات الإجتماعية وبين المؤسسة العسكرية التي كانت في صراع مرير مع مؤسسة الرئاسة بخصوص توريث الحكم للإبن جمال مبارك، العديد من الشواهد التي تؤكد ان العلاقات ليست طبيعية بين المؤسستين وإن بدا العكس.
صحيفة جلوبال بوست تحدث في هذا الموضوع مطولا في ذالكم الوقت وعن الصراع بين الجانبين على اعتبار أن رئيس مصر لا يمكن إلا أن يكون رجلا عسكريا بالدرجة الأولى، ثورة يناير كانت بالنسبة للقيادات العسكرية هدية من السماء لحل أكبر عاصفة تهدد حكم العسكر في مصر، كانت قيادات الجيش أكثر سعادة من غيرهم وبالفعل انتشرت قوات الجيش في الميادين واستقبلهم الناس كمخلصين، واعلن مبارك تنحيه وتوج الجيش كحمام سلام وبطل مغوار.
الحقيقة أن الثقة العمياء في الجيش المصري كان أكبر خطأ ارتكبته القوى الثورية مجتمعة ولو راجعوا الماضي القريب فلربما أدركوا بما لا يدع للشك أن خصمهم الأوحد هو الذي انقلاب 1952 واسقاط النظام الملكي، ولست أعرف كيف انقادت جماعة عريقة ذات خبرة وتجربة بالمؤسسة العسكرية كجماعة الإخوان وراء وعودها.
ولعل جماعة الإخوان خدعت بشكل غير مقصود قواعدها الشعبية وشرائح كبيرة من الشعب المصري الثائر بثقتها بالعسكر، هناك عامل أخر مهم من أجل نجاح الثورات ألا وهو الوعي السياسي وانخفاض نسب الأمية، واعتقد أن هذا العامل خذل بشكل ملحوض الثورة المصرية على المدى القريب إذ إعتقد الناس أن هذه الثورة ستغير جحيم الأوضاع في بلدهم الى جنة الخلد وكنز لا يفنى في ظرف وجيز، وهو اعتقاد واهم ونظرة قاصرة، فالثورة أشبة بالأرض الخصبة تحتاج الى البذل والجهد وخاصة الصبر الكبير، شعوب أوربا كانت ثمار ثوراتها الشعبية مؤجلة لسنوات وربما لقرون وقد كانت في كل مرة تعيد الكرة.
في فرنسا مثلا قامت ثلاث ثورات على الأرجح أهمها كانت في 1848 المسماة بثورة فبراير والتي أسس بموجبها الجمهورية الثانية، وتأسست حكومة مؤقتة تسير البلاد، وعادت الانتخابات لتمنح لكل الفرنسيين كحق من حقوق المواطنة، لكن هذه الثورة التي ألهمت كل شعوب اوربا لم تكن طريقها مفروشة بالورود ولكنها تعرضت ايضا للمكائد والثورات المضادة التي نجحت ايضا في استرداد النظام الإقطاعي، هذه هي حال الشعوب والأنظمة كر وفر، مد وجزر، لا كلل ولا ملل حتى تسترد الحريات ويعم العدل وتسترجع الحقوق.
إن أعظم معركة انتصر فيها الديكتاتور على شعوبنا العربية هي معركة التجهيل التي خاضها ونجح فيها بإقتدار فحول قطاعات من الناس الى قطعان من الغنم تساق الى المسلخ والمذابح والإبتسامة تعلوا محياها، في كتاب ” طبائع الإستبداد ومصارع الإستعباد ” يوصف عبد الرحمان الكواكي هذه المشكلة في باب ” الإستبداد والعلم ” بالكثير من الإستبصار والعمق فيقول ” العلم نور والظلم ظلام ومن طبيعة النور تبديد الظلام والمتأمل في كل رئيس ومرؤوس، يرى كل سلطة الرئاسة تقوى وتضعف بنسبة نقصان علم المرؤوس وزيادته “، وهو بيان تصدقة الكثير من شواهد الواقع والتجارب السياسية.
ففي 1998 اندلعت ثورة شعبية عارمة في اندونيسيا، وقاد هذا الحراك طلاب جامعة جاكرتا ضد الفساد الذي عم البلاد والفقر والبطالة، ورغم ان الشرطة تعاملت بقوة وعنف مع الطلبة والطبقات العاملة إلا انها لم تستطع القضاء عليها بل بالعكس تماما حازت هذه الثورة على تعاطف جماهيري كبير حتى في صفوف الجيش والأمن، تم اسقاط سوهارتو الرئيس الحاكم في اندونيسيا وتحقيق مجموعة كبيرة من مطالب المحتجين الطلبة، الشاهد من هذا الكلام ان الثورة الحقيقية يجب ان تكون ثورة الوعي والعقول والإدراك ثم يأتي التغيير الشامل بشكل ألي، أكبر خيبة تلقتها ثورة يناير هي خيبة الجهل والأفات الأجتماعية وهو ما يجب ان يتدارك من أجل موسم أخر من الثورات الناجحة.