على مر التاريخ، كانت كثيرة هي المواقف التي احتار فيها أنصار الحق بين السلمية والعنف؛ فعلى سبيل المثال يوم أن أقبل المسلمون على فتح مكة، قال سيدنا سعد بن عبادة، وكان قائدًا في جيش المسلمين، لأبي سفيان -ولم يكن قد أسلم بعد- أثناء عرض جيش المسلمين عليه: “اليوم يوم الملحمة”، لقد ثارت نفس سيدنا سعد بعد كل هذه السنوات من تشريد المهاجرين خارج مكة، وقتل المشركين لأهل الصحابة وأحبابهم، والتنكيل بهم، فكان الثأر هو عنوان ذلك اليوم لسيدنا سعد، إلا أن الأمر عندما بلغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: “اليوم يوم المرحمة”، انحاز سيدنا سعد بن عبادة إلى الحرب وانصاع في الوقت ذاته إلى سلمية الرسول -صلى الله عليه وسلم- في ذلك اليوم، وبقي سيدنا سعد قائدًا في الجيش يوم فتح مكة.
وفي حروب الردة، بعد وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخرج نفر من المسلمين رافضي الزكاة، فرأى الفاروق عمر بن الخطاب اتباع النهج السلمي معهم وعدم قتالهم، ولكن أبا بكر رضي الله عنه خليفة المسلمين قد أصر على قتال من منع الزكاة، فانصاع الفاروق عمر لرأي الخليفة.
هؤلاء من خيرة خلق الله، واختلفوا فيما بينهم بين السلمية والعنف، إلا أن القواعد الحاكمة للعمل الجماعي كانت فاصلًا بين بقاء تماسك المسلمين أو الفوضى التي قد تنشأ بينهم.
حتى الفتنة التي خرجت من مصر والتي أدت في النهاية إلى استشهاد أمير المؤمنين، عثمان بن عفان، فقد كان مخيرًا فيها بين السلمية والعنف؛ فقد هاجم المتمردون دار عثمان، وتصدى لهم جمع من الصحابة يدافعون عن خليفتهم، ويفدونه بأرواحهم، إلا أنّه -رضي الله عنه- ناداهم وقال: الله الله، أنتم في حلٍّ من نصرتي، وأراد ألا يراق دم مسلم بسببه، وتنبت فتنة بين المسلمين، وظل على ذلك يمنع الصحابة من الدفاع عنه حتى ظفر به الخوارج وقتلوه، وهو في بيته وبين عشرات الآلاف من الصحابة ولو أراد النجاة لفدوه بأرواحهم.
إذا هي التربية التي تربى عليها الصحابة؛ فقد يرى أحدهم رأيًا والآخر قد يرى غيره، إلا أن ذلك لم يكن في عصور ازدهار الدولة الإسلامية مدعاة إلى الفتنة أو الوقيعة أو التخوين أو الاستقطاب أو الهمز أو اللمز؛ فكل واحد منهم يعرف دوره وحدوده وينشد الإصلاح قدر استطاعته.
بل حتى في مراحل الفتن، كانت الأخلاق تحكمهم رضوان الله عليهم.
ففي أيام الفتنة بين سيدنا علي بن أبي طالب وسيدنا معاوية بن أبي سفيان، أرسل قيصر الروم رسالة إلى معاوية جاء فيها…
من قيصر الروم إلى معاوية..
علمنا بما وقع بينكم وبين علي بن أبي طالب.. وإنا لنرى أنكم أحق منه بالخلافة، فلو أمرتني أرسلت لك جيشًا يأتون إليك برأس علي بن أبي طالب!!!
فرد معاوية: “من معاويه لهرقل“
أخان تشاجرا فما بالك تدخل فيما بينهما.. إن لم تخرس أرسلت إليك بجيش أوله عندك وآخره عندي، يأتونني برأسك أقدمه لعلي!!!
وأخيرًا، فقد يسألني أحد الأحباب وماذا تقصد من كل هذا الحديث؟؟؟
أقول له لا شيء سوى أنني أردت أن أسجل إعجابي بأخلاق الصحابة.