عندما يتعلّق الأمر بتنظيم داعش، لا شيء مؤكّد، الكثير من المعلومات، القليل من المصداقية وما يدور بينهما غير محسوم أو لنقل بشكل أفضل غير دقيق، من يموّل داعش؟ من يسلّح داعش؟ لمصلحة من يعمل داعش؟ كلها أمور لا تزال تخضع لتجاذبات، وعندما يتم مزج العنصر السياسي بالمعطيات العامة يصبح الأمر أكثر ضبابيّة وتشويشا حتى أن البعض ليصف هذه الحالة لداعش بأنها أشبه بشركة مساهمة الكل يستخدمها ضد الكل.
لكن وبغض النظر عن كل ما قيل أو يقال حول هذه التساؤلات يبقى هناك شيء واحد مؤكّد بالفعل. من يستفيد عمليا مّما تقوم به داعش؟ حتى الآن الطرف الأكثر استفادة مما تفعله داعش على الإطلاق هو إيران والمحور التابع لها. كيف؟
في العام 2012-2013، كانت الفصائل السورية المسلّحة تسيطر على المساحة الأكبر في سوريا، فيما يسيطر الأسد على المساحة المتبقية. مع ظهور داعش، بدأ التنظيم يتوسّع على حساب الفصائل السورية المسلّحة وانتزع المساحة الأكبر منها بعد أن كبّدها خسائر باهظة في الأرواح واستولى على كم كبير من الذخيرة والأسلحة.
في هذه المرحلة بدا واضحًا أن الهدف هو تقويض المعارضة السورية. وعلى الرغم من أنها بقيت صامدة، إلا أنه من الواضح أنها أصبحت أكثر محافظة من ناحية التوجّه وذلك من اجل مواجهة الخطاب المتلبس بالدين لداعش، وقد كان لهذا الأمر ضرر كبير؛ إذ امتنعت القوى الدولية عن تقديم الدعم اللازم للمعارضة بحجّة أنها أصبحت متطرفة، وبحجة أن الأسلحة من الممكن أن تقع في نهاية الأمر بيد داعش، علما أن هذه القوى الدولية كانت تنتظر مثل هذه الذريعة لتبرر موقفها السلبي من الثورة السورية.
في مرحلة ثانية، ومنذ بداية العام 2014 تقريبًا بدا واضحًا أن تنظيم داعش يكتسب المزيد من القوة على الأرض، وقد خدم هذا السياق أيضًا منطق إيران والنظام السوري ، حيث نجح نظام الملالي والأسد في إدخال شرط إثارة حالة جدل حول ضرورة محاربة الإرهاب أولا قبل الحديث عن العملية السياسية في سوريا، ونتيجة لذلك انحرف مسار جنيف-1 وأصبح لدينا جنيف-2 الذي يرى أن محاربة الإرهاب أولوية وليس نظام الأسد.
وفي الوقت الذي رفضت فيه بعض الدول الإقليمية هذا المنطق مشددة على ضرورة أن يتم معالجة مشكلة الأسد أولا كي يتيح هذا الأمر التوحد في معالجة مشكلة داعش، قامت إيران بزيادة عدد وعتاد الميليشيات الشيعية المسلحة التي تضم آلاف المقاتلين من لبنان والعراق وأفغانستان وإيران إلى داخل سوريا، كما قامت بزيادة عدد مقاتليها من الجيش والحرس الثوري، وقد غض المجتمع الدولي الطرف كلّياً عن هذه الميليشيات وعن تزايد أعدادها في سوريا وعن جرائمها التي لا تقل بشاعة عن جرائم “داعش” وذلك لأنّها كانت ولا تزال تقدّم نفسها من باب “محاربة داعش”، وهو نفس المنطق الذي تقدّم فيه إيران نفسها إلى العالم مؤخراً!! بمعنى آخر، أمنت “داعش” ذريعة ممتازة لعمل هذه الميليشيات لكي تلقى قبولًا شرعيًا.
وكما فعلت المليشيات الشيعية، سارت الميليشيات الكرديّة على نفس النهج، إذ طالبت القوى الدولية بتقديم الدعم العسكري والمالي واللوجستي تحت ذريعة أنّها تريد “محاربة داعش”! وحصلت ما تريد. وقد أدى هذا الأمر إلى ازدياد التوتّرات الطائفية والقومية وزيادة عدد الجهات التي تواجه المعارضة السورية المسلّحة (الأسد، الميليشيات الشيعية، إيران، المليشيات الكردية، داعش)، كما أدى إلى ازدياد الضغط على حلفاء المعارضة السورية مع ازدياد التطرف والإرهاب وبروز نزعات انفصالية لدى الميليشيات الكرديّة وتمدد الإرهاب باتجاه الحدود التركية.
لقد وضع هذا الأمر ضغوط على الإطراف الإقليمية الداعمة للمعارضة السورية، وفي كثير من الأحيان وضعها في موقف حرج. بعضها دخل في التحالف الدولي ضد داعش مبكرا ودون أي شروط تتعلق بإزالة الأسد، البعض الآخر رفض الدخول مبكرا قبل أن يتم معالجة جذور المشكلة كتركيا. لكن سرعان ما اضطرت إلى الدخول أيضا بعدما نفذت داعش هجمات إرهابية داخل تركيا.
التدخل الروسي في سوريا والمكمّل للجهد الإيراني جاء تحت يافطة “القضاء على داعش”. وتزامن مع جدول متصاعد، داعش أولا أو الأسد أولا، وقبل عمليات باريس الإرهابية الأخيرة التي قامت بها داعش، كانت فرنسا لا تزال الدولة الأوروبية الوحيدة التي تقول علنا أن على الأسد أن يرحل أولا، وفي اجتماع فيينا الأول وقفت باريس إلى جانب كل من تركيا والسعودية في المطالبة بضرورة رحيل الأسد أولا، في مقابل الموقف الروسي والإيراني الذي شدد مجددا على ضرورة التركيز على داعش ومحاربة الإرهاب قبل كل شيء.
بعد التفجيرات التي قامت بها داعش، يتم الدفع مجددا باتجاه السياسة الإيرانية، ومن أعظم الخدمات التي أدتها داعش لإيران في تلك التفجيرات هي الدفع باتجاه إقامة تنسيق روسي- فرنسي- أمريكي في سوريا. في استعادة للمشهد، سنرى كيف أدت هذه العمليات إلى دخول كل الدول المعارضة للأسد الواحة تلو الأخرى في مسار ملتوٍ نتيجة العمليات التي تقوم بها داعش من الواضح أن أحدا لم يستفد من “داعش” بقدر استفادة إيران منها،وان كان هناك الكثير من المتغيرات في ما يتعلق بهذا التنظيم، يبقى هذا هو الثابت الوحيد.