ديموقراطية الدكتاتور”.. هذا هو الشعار الإخباري (tagline) الذي اختارته قناة سكاي نيوز عربية لتناول فوز حزب العدالة والتنمية في تركيا يوم الأحد الماضي.
لم يكن الشعار خروجا صارخا على أعراف المهنية وأخلاقيات الصحافة فحسب، ولم يكن دليلاً على غباء منقطع النظير فقط، بل كان تعبيرا عن حجم الصدمة التي مُنيت بها القناة، والتيار الذي يتماهى معها.
كان بوسع القناة أن “تلمز” بطريقة أقل وضوحا وأكثر استساغة لو اختارت مثلاً شعار: “ديموقراطية السلطان”، أو “ديموقراطية العثمانيين الجدد”، أو “تركيا تختار العثمانيين”، لكنها وقعت أسيرة لإيديولوجيتها، ما جعلها مكشوفة تماما أمام الجمهور الذي لن يحتاج إلى جهد ليدرك انحيازها الفج. زاد الطين بِلّة أن القناة اختارت ضيوفا بلون واحد، فجميعهم قرؤوا المشهد الانتخابي من وجهة نظر المعارضة التركية، وجميعهم هاجموا تجربة حزب العدالة والتنمية في الحكم.
ضيف سعودي ظهر على شاشة القناة مع شعار “عودة الدكتاتور” زاعما أن حزب العدالة والتنمية لم يفز، بل خرج فقط من خسارته السابقة، مضيفا أن نتيجة الانتخابات تشي بأن الشعب التركي “ذو مزاج غريب جدا” و”مدجّن تماما”، و”لا يمكن التنبؤ بسلوكه”. ذكّرني هذا الكلام بتعليق صحيفة اللوموند الفرنسية على فوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الجزائر عام 1991 حيث وصفت الشعب الجزائري آنذاك بأنه “فاقد الوجهة تماما”.
في الأيام التي سبقت الانتخابات، شنّت القناة (مقرها أبو ظبي) حملة على الحكومة التركية، فنشرت في موقعها يوم الجمعة السابق للانتخابات تقريراً بعنوان: “الإعلام التركي يشكو من تصاعد القمع قبل الانتخابات”، وفي يوم السبت ظهر في موقعها تقرير بعنوان: “اتهامات للحزب الحاكم عشية الانتخابات”، ونشرت الأحد تقريراً تحريضياً لمراسلها في أنقرة، يوسف الشريف، بعنوان: “تركيا أردوغان وتنظيم داعش: العلاقات الغامضة”.
لكن موقف “سكاي نيوز” من تركيا لم يكن معزولاً، فثمة وسائط خليجية صعّدت في الأيام التي سبقت الانتخابات لهجتها ضد الحكومة التركية بقيادة حزب العدالة والتنمية، وكأن هذه الوسائط تعتقد أنها ستؤثر في قرار الناخب التركي.
أبرز هذه الوسائط جريدة “الشرق الأوسط” التي نشرت يوم الأحد عنواناً عدائياً يقول: “الأتراك يختارون في الانتخابات البرلمانية بين “العدالة والتنمية” والاستقرار”.
في اليوم التالي, اختار الأتراك الفوضى بحسب محرر “الشرق الأوسط” الذي فكّر وقدّر، فتفّتق مخياله الشيطاني عن هذا التأطير: “الأتراك يعودون إلى بيت العدالة”، وهو ليس تراجعاً عن عنوان يوم الأحد، إذ إن عبارة “بيت العدالة” استعارة من عبارة “بيت الطاعة”-التي تشير إلى إلزام الزوجة الرافضة لزوجها من غير سبب بالعودة إلى بيت الزوجية لكي تحصل على النفقة.
تأطير “بيت العدالة” يوحي بأن حزب العدالة والتنمية منزل محاط بالجُدُر، وصاحبه يمارس “الذكورية”، و “القوامة”، على تركيا التي تبدو زوجة تمرّدت عليه برهة من الزمن، ثم أجبرها على العودة إلى “سلطانه”.
تعبير “السلطان” استعارته أيضاً “الشرق الأوسط” يوم الانتخابات عندما اختارت هذا التأطير الغريب: “أوباما الكردي في مواجهة السلطان…”. السلطان، بحسب الجريدة، هو الذي “يتهمه” خصومه بأنه “يريد إحياء حكم السلاطين في تركيا”، أما منافسه فهو صلاح الدين دميرتاش الذي كالت له الصحيفة الثناء: “المحامي الشاب الذي يُوصف بـ “أوباما الكردي” لملَكَته الخطابية ونجاحه…” (ثناء غير مباشر على أوباما، أو عصفوران بحجر).
موقع قناة العربية الحدث نشر تقريراً السبت عنوانه: “مخاوف من النزعة التسلطية للحكم بقيادة… أردوغان…”. موقع العربية عاجل في تويتر تابع مكاسب حزب العدالة والتنمية في الانتخابات حتى فرز 66 في المئة من الصناديق، وتحقيق الحزب 51.9 من الأصوات، ثم توقّف، وأخلد محرّروه إلى النوم، أو هكذا تظاهروا. العالم كله تابع نقل التطورات حتى فرز 99 في المئة من الصناديق. في الساعة 8:59 مساء الأحد، بتوقيت مكة، بثت قناة الجزيرة آخر الأرقام: “نتائج شبه نهائية في تركيا بعد فرز 98 في المئة من الأصوات تشير لتقدم حزب العدالة والتنمية بنسبة 49.5 في المئة”.
في الساعة 9:29 (أي بعد نحو نصف ساعة من خبر “الجزيرة”)، عرضت قناة العربية الحدث هذا العنوان على شاشتها: ” حزب أردوغان يتقدم بسهولة في الانتخابات التشريعية بتركيا وفق نتائج جزئية”.
عبارة “حزب أردوغان” تحامل رخيص وتجاوز مهني، يذكّر بوصف القناة الدستور الذي أقرّه الشعب المصري في عهد الرئيس مرسي بـ “دستور مرسي”. في وقت مبكّر من فجر الإثنين (الساعة 1:15 بتوقيت مكة تقريباً)، ألقى رئيس الوزراء التركي، أحمد داود أوغلو، كلمة الفوز، فنقلتها فضائيات إخبارية عدّة كقناة الجزيرة، و بي بي سي عربي، بينما تجاهلتها قناة سكاي نيوز عربية التي تناولت حركة الأسهم، وقناة العربية التي بثت مقابلة مسجلة مع الكولونيل الأميركي، ستيف وارن، المتحدث باسم التحالف الدولي ضد داعش. في اليوم التالي، وفي نشرة أخبار الساعة 1 ظهراً بتوقيت مكة، اختارت قناة العربية الحدث هذا التأطير للنتائج المعلنة: “حزب العدالة والتنمية الحاكم يتقدم في الانتخابات التشريعية التركية”. حال إنكار غير مسبوقة في تاريخ الأخبار.
مرحلة ما بعد الصدمة قد تكون أكثر إيلاماً. كاتب في موقع العربية نت، اسمه فهد الشقيران، عبّر في اليوم التالي للانتخابات عن مشاعره ومشاعر تياره في الخليج، بمقال شتم فيه تاريخ تركيا بأسلوب بذيء وعدواني في آن. زعم الكاتب أن تاريخ الدولة العثمانية مليء “بالقمع والإرهاب وتصفية الخصوم… والهيمنة الاقتصادية الفجة على الشعوب، ما جعلها تاريخياً بلا قيمة تُذكر، بل إن تاريخ السلطنة العثمانية تاريخ انحطاط وانهيار وتهشيم للقيم والأخلاق”.
الأكاديمي الإماراتي، عبد الخالق عبد الله، كان أحد الذين أفقدتهم الصدمة التركيز، بل القدرة على الكتابة. كتب في تدوينة له على موقع تويتر: “من حق أردوغان وحزبه الفرح بالفوز اليوم، لكن أردوغان استمر في الحكم طويلاً، وأُصيب بآفة الاستبداد، وظن أنه سلطان عصره وعبقري زمانه. هل تعلّم الدرس؟”.
وفي تدوينة أخرى تشي بحرقته: “..أشفق على أنصار أردوغان الليلة. ما صدّقوا أن حزبه فاز بالانتخابات. مبروكين رغم أن الفوز لتركيا أولاً، وللديموقراطية ثانياً، ثم حزب العدالة”.
للصدمة ما يبررها. اقترع 57 مليون تركي، في 81 محافظة و 113 ممثلية في الخارج و 30 بوابة حدودية، في يوم واحد، ومن دون عنف ولا تزوير، بنسبة مشاركة قدرها 86.11 في المئة، وظهرت النتائج شبه النهائية في اليوم نفسه- مشهد ديموقراطي حضاري يحبس الأنفاس. فضلاً عن ذلك، فإن انتصار حزب العدالة والتنمية انتصار لما يُسمّى في الخطاب المتصهين بـ “الإسلام السياسي”، الذي أُنفقت البلايين من الدولارات لتشويهه وشيطنته، وبشّر كثير من العلمانويين العرب بموته بعد الانقلاب العسكري في مصر صيف عام 2013. لكن لا الناخب التركي، ولا الحزب المنتصر الذي حظي بثقة هذا الناخب، يلقون بالاً لزعيق المصدومين في الخليج. ما ضرّ نهر البوسفور أن رمى فيه مصدوم بحجر.