في مصر فقط، يفوز المرشح للبرلمان قبل أن تبدأ الانتخابات أصلاً. هذا هو حال “برلمان الجنرالات” الذي تجري عملية تصميمه وتصنيعه على عين المخابرات والأجهزة الأمنية.
هذا ما تطالعنا به الصحف يومياً من اجتماعاتٍ تجري على قدم وساق، بحضور ممثلي هذه الأجهزة، وبعض ممثلي القوى السياسية المرضي عنها، وبإشراف من نجل عبد الفتاح السيسي شخصياً، وبحضور المستشار القانوني لحملة السيسي الرئاسية، محمد أبو شقة، مثلما نقلت صحيفة العربي الجديد عن مصادر مطلّعة. الأنكى أن تقارير إخبارية تتحدث عن صراع شرس بين قوائم “المخابرات” و”الداخلية”، خصوصاً بعد أن تم استبعاد مرشحي إحدى القوائم التي تتبع الأخيرة، ويبدو أن قائمة “المخابرات” هي الأكثر حضوراً وقوة، ولها اليد العليا في الحملة الانتخابية.
هنا يبرز اسم قائمة “في حب مصر” التي يقودها أحد اللواءات العسكريين المتقاعدين الذين يجري تقديمهم في الإعلام باعتبارهم خبراء استراتيجيين، في حين تكفي تصريحاتهم ومقولاتهم بوضعهم جميعاً في “عنبر” للمجانين في أحد مستشفيات الأمراض العقلية في بلد محترم. الجنرال المتقاعد، مدير أحد المراكز البحثية، كما يُقال عنه أيضا، يعقد اجتماعات دورية مع من كل من يقدم فروض الطاعة والولاء للجنرال الكبير الذي يحكم البلاد بالحديد والنار. ويتحكم فى اختيار أسماء المرشحين عن القوائم والمقاعد الفردية في الانتخابات. وهو أيضا الذي أصدر تصريحاً مزلزلاً، لم يخل من طرافة، حين قال، أخيراً، إن “البرلمان الجديد سوف يوافق علي قوانين السيسي قبل مناقشتها”، أي أنه سيحوّل البرلمان إلى مجرد “ختم” يبارك فرمانات الرئيس ويصدقها، كي تصبح تشريعات وقوانين. تجاوز الرجل فى “فجوره” السياسي ما كان يفعله “ترزية القوانين” فى عهد حسني مبارك، حين كان أحمد فتحي سرور وزكريا عزمي يتظاهران بأن مناقشات ومداولات تجري تحت قبة البرلمان، قبل تمرير أي تشريع جديد، حفظاً لماء الوجه واصطناعاً لقدر، ولو بسيط، من الشرعية البرلمانية.
دعك من اسم “القائمة”، والذي هو جزء من سياق عام مقزز لا يخلو من الابتذال والابتزاز بوضع اسم “مصر” في أي جملة، ولو غير مفيدة، ليس لها هدف سوى إبراز نزعة “وطنية” مصطنعة، لا تخلو من معانٍ شوفينية وإقصائية واضحة. ولكن، يبدو أن القوم لا يخجلون من أن يقودهم “لواء متقاعد”، بل على العكس، يجري تقديمه وقائمته دليلاً على “الوطنية” النقية والعمل على مجابهة “أعداء الوطن”. وهي القائمة التي فاز بعض مرشحيها بالتزكية في إحدى دوائر شرق الدلتا، لا لشيء سوى لسرقة قوائم منافسيها. ليس غريباً أن يعود “فلول” مبارك والحزب الوطني إلى الواجهة ويحاولون، بكل الطرق، حجز مكان على القائمة المحظوظة. فيعود نجل كمال الشاذلي، أحد سدنة الحزب الوطني القديم، إلى الواجهة، ويقول في تصريح لا يخلو من دلالة بأنه يسعى إلى “استعادة” مقعد والده، وكأنها تركة ورثها عن أبيه! أو أن يقف أحد المشاهير ممسكاً بيد ابنه المرشح للبرلمان، معلناً بكل ثقة أنه لا يمتلك برنامجاً، وليس في حاجة إليه، لأن هدفه “خدمة الناس”. هؤلاء “الناس” الذين يتهكم عليهم المستشار، ويسمعهم أقذع الألفاظ فى كثير من لقاءاته، من دون خجل أو حياء. بينما يتطاحن رجال أعمال مبارك على دخول البرلمان، مستغلين أموالهم وفضائياتهم، من أجل منافسة قائمة “الجنرالات”.
اللافت هو انزواء القوائم المحسوبة على “الثورة”، وانسحابها من المشهد، مثلما حدث مع قائمة “صحوة مصر” التي كان يقودها الدكتور عبد الجليل مصطفي، المنسق السابق لحركة كفاية، وتضم شخصيات كانت تعارض مبارك، لكنها تحولت إلى مجرد كومبارس بعد “30 يونيو”. وفي الوقت نفسه، تعاني أحزاب، كانت يوماً عريقة، مثل “الوفد” من التهميش والإقصاء، على الرغم من حالة الاستجداء التي يمارسها رئيسه فى كل تصريح له من أجل أن ينال رضى الجنرال ودعمه. هو أمر كاشف لحجم الخداع والاستخدام السياسي الذي تعرضت له من يعرفون بـ”النخبة المدنية”. هذا بينما لا نسمع صوتاً لحمدين صباحي، أو بقية المحسوبين، ولو ادعاءً، على ثورة 25 يناير.
لم يعد عبد الفتاح السيسي بحاجة لتزوير الانتخابات، بعدما تم تزوير الوعي الجمعي للمصريين وتزييفه. ولم تعد الدولة بحاجة إلى “تسويد” بطاقات مرشحيها، أو تبديل “الصناديق”، مثلما كان يحدث في عهد مبارك، فالتسويد والتبديل أصبحا يجريان فى المنبع، وهو عقول المواطنين المصريين التي تم تأميمها ومصادرتها قبل عامين.
نحن، إذاً، إزاء مشهد سوريالي وهزلي بامتياز، لكنه يبدو عاكساً حجم الانحطاط والتدهور الذي وصلت إليه الأوضاع السياسية في مصر، تحت حكم الجنرالات.