في ظل مشكلات الموازنة العامة المصرية، أصدرت القاهرة بعد انقلاب يوليو/تموز 2013 مجموعة من الإجراءات والتدابير المالية التي ساعدت على انخفاض مستوى معيشة المصريين، وحرمانهم من العديد من الخدمات العامة، وتحملهم نفقات جديدة خاصة في قطاعات التعليم والصحة والنقل والغذاء.
ولكن الملفت للنظر أن ثمة تدابير تتخذ لا يمكن قراءتها بأي حال من الأحوال على أنها تصب في مساعدة صانع السياسة المالية، لكي يواجه عجز الموازنة، أو يحقق أبعادا إيجابية اقتصادية أو اجتماعية سواء على مستوى الأفراد أو المنشآت. ولكنها تدل على استثناءات تزيد من أزمة موازنة الدولة. ومن بين أهم هذه الجهات التي شملتها الاستثناءات: القوات المسلحة المصرية والشرطة.
ففي ظل تطبيق قانون الضريبة العامة على العقارات، صدر قرار وزير الدفاع رقم 68 لسنة 2015 بعدم تطبيق القانون على 574 منشأة عسكرية، ومنها ساحات وأندية ودور سينما ومسارح، وتتبع هذه المنشآت لنحو 28 إدارة عسكرية.
وصدر مؤخرا قرار لرئيس مجلس الوزراء باستثناء سبع جهات تابعة للجيش والشرطة من توريد نسبة 25% من فوائضها المُرحلة لصالح الموازنة العامة، على الرغم من أن هذا الإلزام أتى بموجب قانون ربط الموازنة للعام المالي 2015/2016 الصادر في مطلع يوليو/تموز الماضي.
والهيئات التي حظيت بهذا الاستثناء هي: جهاز الخدمات العامة بوزارة الدفاع، وصندوق مشروعات الأراضي بوزارة الداخلية، وصندوق تمويل المتاحف العسكرية، وجهاز مشروعات الخدمات الوطنية، وجهاز مشروعات أراضي القوات المسلحة، وصندوق إسكان أفراد القوات المسلحة، وجهاز الصناعات والخدمات البحرية.
وبالنظر إلى الاستثناءات التي تمت الإشارة إليها، سواء في قرار وزير الدفاع بإعفاء المنشآت العسكرية من الضريبة العقارية، أو قرار رئيس مجلس الوزراء باستثناء الهيئات والصناديق الخاصة بالشرطة والجيش من توريد نسبة من فوائضها للموازنة؛ فإن هذا الأمر يدل على تقنين فساد المؤسسة العسكرية.
والجديد بالذكر أن دستور 2014 الذي تم إعداده في ظل الانقلاب، نص في الفقرة الثانية بالمادة 203 المنظمة لشؤون مجلس الدفاع الوطني، على ما يلي: “يختص بالنظر في الشؤون الخاصة بوسائل تأمين البلاد، وسلامتها، ومناقشة موازنة القوات المسلحة، وتدرج رقما واحدا في الموازنة العامة للدولة”، أي أن ما يتعلق بالأوضاع المالية للقوات المسلحة يعرض كرقم واحد إجمالي على مجلس النواب دون تفاصيل.
تقنين الفساد قبل وبعد ثورة يناير
عقب ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، ارتفعت آمال المواطنين بشن حملة كبيرة لاسترداد أموال الشعب المنهوبة من لدن رجال المال والسلطة في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك، ولكن رجال القانون كان لهم رأي آخر مفاده أنه في ظل المحاكمات المدنية فلن يدان أحد من رجال مبارك لأن فسادهم مقنن، فهم حصلوا على ما سرقوه بموجب قوانين وقرارات، وبالتالي سيكون من الصعب على القاضي الحكم بإدانتهم، وهو ما حصل بالفعل، ولذلك كان الثوار الحقيقيون ورجال القانون المؤيدون لهم يرون بأن الحل يكمن في المحاكمات الثورية.
وبعد الانقلاب العسكري اتبعت نفس الممارسات من تقنين إجراءات لا يمكن قراءتها إلا في إطار فساد مالي، لا يليق بدولة لديها أزمة تمويلية، ويتزايد دينها العام بمعدلات كبيرة، ويبلغ 2.6 تريليون جنيه (332 مليار دولار)، فبأي حق يتم إعفاء المنشآت العسكرية من الضريبة العقارية، وهي تضم نوادي ومسارح ودور سينما، وتقدم خدماتها للمدنيين والعسكريين.
فالإعفاء الضريبي لفائدة المنشآت العسكرية الخالصة لا غبار عليه، ولكن النوادي والمطاعم والمسارح التي تقدم خدماتها للجمهور ينبغي أن تخضع لنفس الضرائب التي تدفعها المؤسسات المدنية، وإلا -بمعايير المنافسة- فإن هذه المعاملة تعد تحيزا مضرا بالمنافسة بين المستثمرين في هذا القطاع الخدمي.
كما أن استثناء المؤسسات الشرطية والعسكرية من ترحيل نسبة من فوائضها للموازنة العامة يثير الكثير من الشبهات، وبخاصة أن هناك توسعا لهذه الجهات في الحياة والنشاط الاقتصادي المدني، مثل صناديق الأراضي للجيش والشرطة، أو جهازي الخدمات العامة والوطنية للقوات المسلحة.
إن قانون ربط الموازنة العامة للعام المالي 2015/2016 لم يطالب الهيئات المذكورة بتوريد كامل فوائضها، ولكنه حدد نسبة 25% ولمرة واحدة، وذلك نظرا لما تعانيه الموازنة من مشكلات تمويلية، وتراجع الدعم والمساعدات الخليجية بشكل كبير هذا العام.
الافتقار للشفافية المالية
وثمة أمر مهم يدل على وجود شبهات فساد، وهو افتقار هذه المنشآت العسكرية للشفافية المالية، فدفعها لنسبة 25% من فوائضها كان سيكشف الحجم الحقيقي لوضعها المالي، ويساهم هذا الاستثناء للمؤسسات العسكرية والشرطية أيضا في غياب البيانات وتوفرها للمجتمع، وهو المؤشر الذي تحتل فيه مصر مرتبة متأخرة في المؤشر العالمي المعروف بـ”الموازنة المفتوحة“.
وحسب بيانات هذا المؤشر للعام 2015، أتت مصر في ترتيب متأخر جدا في ما يتعلق بشفافية الموازنة، إذ حصلت على 16 درجة من مئة درجة. وحصلت مصر على صفر في الرقابة على الموازنة بسبب غياب البرلمان، وبشكل عام كان تصنيف البلاد في المجموعة الأخيرة، والتي تصنف على أنها توفر معلومات نادرة أو لا توفر معلومات عن موازنتها.
وخير دليل على أن استثناء هذه الهيئات قد بُيّت بليل هو أن المادة 14 من قانون ربط الموازنة العامة بعد أن ألزمت الهيئات العامة الخدمية والاقتصادية بتحويل نسبة من فوائضها، أكدت حق رئيس الوزراء في استثناء بعض هذه الهيئات من هذا الالتزام، بعد عرض من وزير المالية. ليكون من السهل إعفاء المؤسسات العسكرية والشرطية من الوفاء بالتزامها المالي تجاه الموازنة.
إن بيت القصيد هو الهيئات الاقتصادية والاجتماعية والقومية التي يبلغ عددها نحو 52 هيئة، فضلا عن عدد من الصناديق الخاصة التي لا يعلم عددها على سبيل الحصر بمصر، وحسب ما تم في عام 1991/1992 من تعديل على قانون الموازنة العامة نص على فصل هذه الهيئات عن الموازنة، وعلى أن يكون لها موازنات خاصة، وأن تعرض كذلك على الهيئة التشريعية، وتكون العلاقة بين هذه الهيئات وموازنة الدولة هي علاقة العجز والفائض.
العلاقة بين الهيئات الاقتصادية والموازنة
إلا أن هذا التعديل كان معيبا، إذ إنه لم يعمم ذلك الإلزام في ما يتعلق بعلاقة هذه الهيئات بالموازنة من حيث العجز والفائض، فترك هذه المسألة حسب كل قانون منشئ ومنظم لعمل كل هيئة على حدة، ولذلك فهناك 14 هيئة من بين 52 تسمح قوانينها بترحيل فوائضها المالية بالكامل، من سنة مالية لأخرى، دون تحويلها للموازنة العامة.
وعلى رأس الهيئات المذكورة آنفا: الهيئة العامة للاستثمار، والتي تتمتع بموارد مالية كبيرة، بددت للأسف في مرتبات العاملين ومكافآتهم بشكل مستفز، فقد كان لهذه الهيئة رصيد مالي يناهز ثلاثة مليارات دولار، في الوقت الذي كانت فيه البلاد -وما زالت- تعاني من أزمة حادة في احتياطي النقد الأجنبي.
إن هذه الممارسات في إجمالها، وبخاصة ما يتعلق باستثناءات القضاء والقوات المسلحة والجهاز المصرفي، تجعل من الصعوبة بمكان أن يحدث أي إصلاح في الموازنة العامة المصرية، وبالتالي ستظل تعاني لوقت طويل من مشكلاتها، والتي ستتحول إلى معضلات، والذي سيدفع الثمن غاليا باستمرار هو المواطن المصري، فليس من العدل أن تسعى الحكومات لكل إجراء تستطيع من خلاله التأثير سلبيا على دخول المواطنين، في حين تقف عاجزة أمام مؤسسات يمكنها بسهولة المساهمة في الوصول لحلول ناجعة، على الأقل توقف نزيف الموازنة.