هل جاء محمد البرادعي بجديد في تصريحاته الأخيرة عن كواليس ما جرى في انقلاب العام الثالث عشر من الألفية الثالثة في مصر؟ لم يضف البرادعي شيئًا لشهادته المدوية التي أدلى بها في مايو، في مؤتمر “حالة الاتحاد الأوروبي” الذي استضافته إيطاليا، وكان ذلك نص أقواله “ما حدث بعد ذلك كان مخالفًا تمامًا لما وافقت عليه كخارطة طريق.
ما وافقت عليه: 1. إجراء انتخابات رئاسية مبكرة 2. خروج كريم للسيد محمد مرسي 3. نظام سياسي يشمل الجميع، بما فيهم الإخوان المسلمين وغيرهم من الإسلاميين 4. بدء عملية مصالحة وطنية وحوار وطني وحل سلمي للاعتصامات، وقد كانت هناك خطة جيدة للبدء في هذا الطريق. ولكن، كل هذا ألقي به من النافذة، وبدأ العنف، وعندما يكون العنف هو الأسلوب، ويغيب عن المجتمع مفهوم العدالة والهيكل الديمقراطي للعمل السياسي، فلا مكان لشخص مثلي، ولا يمكن أن أكون مؤثرًا”.
لا جديد هذه المرة، سوى الكشف عن بيرناردينو ليون، المبعوث الأوروبي، عرابًا لذلك الاتفاق، أما قصة التنسيق مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، تحضيرًا للانقضاض على تجربة حكم الرئيس مرسي، فذلك معلوم للكافة، منذ وقت مبكر، وقد اعترف به الدكتور البرادعي شخصيًا في أكثر من مناسبة، حيث قال لكل من “رويترز” و”أسوشيتيد برس”، قبل أن ينتهي العام 2012، بعد الإعلان الدستوري الذي أصدره الرئيس مرسي “أنتظر لأرى بيانات إدانة قوية للغاية من الولايات المتحدة، ومن أوروبا، ومن أي شخص يهتم حقًّا بكرامة الإنسان، وأتمنى أن يكون ذلك سريعًا”.
ثم كانت التصريحات الأسوأ على الإطلاق من الدكتور البرادعي لمجلة “ديرشبيغل” الألمانية، في الفترة نفسها، وقال فيها نصًا “إن الشباب ينتظرون موقفًا واضحًا من الغرب ضد مرسي، إذا كان الأميركيون والأوربيون حقًا يؤمنون بهذه القيم التي دائمًا ما يدعونها، فيجب عليهم مساعدتنا للضغط على مرسي”.
إذًا، ما الجديد لدى الدكتور البرادعي، سوى أنه يرفع الغطاء مرة أخرى عن مؤامرة الانقلاب، سواء كان يفعل ذلك إمعانًا في غسل اليدين من المشاركة في مشروع شرير لحرق أول تجربة ديمقراطية في مصر، أو يفعله نوعًا من مراجعة الذات، وتبين مواضع الأقدام، بعد رحلة عامين في بحيرات الدماء والعنف؟
وأيًا ما كانت الدوافع والمنطلقات، فإن اعتراف شخصية بحجم البرادعي بالخديعة التي نفذتها أطراف مشروع إطاحة تجربة أول رئيس مدني منتخب، يبقى معطى مفيدًا في جهود مقاومة الانقلاب ونتائجه الكارثية، ليس على مصر فقط، وإنما على المنطقة كلها.. غير أنهم كالعادة، تركوا مضمون الكلام، وجوهر التصريحات، واعتبروا أن الأمر ليس إلا مناسبة جديدة، وفرصة ذهبية لممارسة رياضة غرس الأنياب والأظفار، في جسد الرجل، وإقامة سرادقات الردح والشتائم، والاتهامات بالخيانة والعمالة.
تحدث البرادعي، فخرجت حشود “العكاشيين” من الجانبين، معسكر ضباع تأييد الانقلاب، ومعسكر سباع الدفاع عن الشرعية، معًا، ويدًا بيد، يهتفون “كلنا في خندق واحد ضد محمد البرادعي”، وكأنهم أبناء عمومة، اجتمعوا على كراهية بذيئة، لرجل يأتي بشهادة كاشفة لعمق المؤامرة، وحجم الجريمة التي ارتكبت ضد الثورة المصرية، فيتركون الشهادة، ويقتلون الشاهد.
إنه الاصطفاف حين يكون قبيحًا ومشينًا، والتحالف حين يصبح بين مجموعات تظهر من بعيد متضادة، إلا أنها، في واقع الأمر، متوافقة على محاربة أي فرصة لإحداث تغيير على معادلة الصراع القائمة، والتي يبدو أن بعضهم يريد لها أن تبقى على هذا النحو من الجمود والتكلس والرتابة، بحيث تبقى المسألة محصورة بين الذين استعذبوا دور المتحدث باسم الضحية، في تملق مبتذل لأوجاع المضارين من كوارث الانقلاب، وأولئك الذين يستمتعون بدور المعبر عن فكر الجلاد، في نفاق رخيص لرغبات القتل والإبادة لدى المتربحين من المقتلة، في رقصة مجنونة، لكنها مربحة، بين مازوخيين وساديين، بينما يدفع الضحايا الحقيقيون الثمن.
مرة أخرى أكررها: مؤسف أن تكون الرغبة المستعرة في شتم البرادعي مقدمة على واجب الاستفادة مما يقول، والتعامل معه بجدية، على اعتبار أنه “شاهد إثبات” على جريمة، لا تتوقف محاولات إخفاء معالمها.