"كل الناس يموتون.. إما بالسكتة القلبية وإما بالأباتشي.. وأنا أفضل الأباتشي".. هكذا قالها بابتسامة واسعة وبلهجة لا تخفي سعادة وفرحا بلغة إنجليزية واضحة في آخر ظهور علني له وكأنه يختار جائزة طال انتظارها، لا قتلا ونارا وقصفا ودمارا.. وهكذا حقق الله له مراده ليرتقي شهيدا بقذائف الأباتشي ويكون ظهوره التالي شهيدا محمولا على الأعناق.
إنه الشهيد عبد العزيز علي عبد الحفيظ الرنتيسي، القائد السابق لحركة حماس، والزعيم السياسي الفذ، والقائد الشجاع، الجريء في قول كلمة الحق، وفي التصدي للصهاينة اليهود وغير اليهود، لم يخف من عمليات الغدر التي يقومون بها لاغتياله، ولم يخش الآلة العسكرية التي يستخدمها الصهاينة في ملاحقته وإخوانه.. كان يعد نفسه مشروع شهادة يتمنى تحقيقه، ويسعى إليها.
شخصيته القوية العنيدة في مواقفها السياسية والجهادية، جعلت له سجلاً حافلاً بالكفاح في سائر الميادين، وعرضته للاعتقال، من اليهود ومن عناصر السلطة، مرات ومرات، وعرضته للإبعاد إلى مرج الزهور، وإلى التعذيب لدى كل من الأعداء والخصوم الذين كانوا يسعون للقضاء عليه بشتى السبل والأساليب
وُلِد الرنتيسي في 23 أكتوبر 1947 في قرية يبنى (بين عسقلان ويافا)، ولجأت أسرته بعد حرب 1948م إلى قطاع غزة واستقرت في مخيم خان يونس للاجئين، وكان عمره وقتها ستة شهور ونشأ الرنتيسي بين تسعة إخوة وأختين.
ويتذكر الرنتيسي طفولته، فيقول: "توفي والدي وأنا في نهاية المرحلة الإعدادية، فاضطر أخي الأكبر للسفر إلى السعودية من أجل العمل". ويردف: "كنت في ذلك الوقت أعد نفسي لدخول المرحلة الثانوية، فاشتريت حذاء من الرابش (البالة)، فلما أراد أخي السفر كان حافيًا، فقالت لي أمي أعط حذاءك لأخيك فأعطيته إياه، وعدت إلى البيت حافيًا.. أما بالنسبة لحياتي في مرحلة الثانوية فلا أذكر كيف دبرت نفسي".
التحق د. عبد العزيز الرنتيسي وهو في السادسة من عمره بمدرسة تابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، واضطر للعمل أيضًا وهو في هذا العمر ليساهم في إعالة أسرته الكبيرة التي كانت تمر بظروف صعبة وأنهى دراسته الثانوية عام 1965م.
وكان الرنتيسي من المتفوقين، وهو ما أهله للحصول على منحة دراسية في مصر على حساب وكالة غوث اللاجئين (أونروا) وهناك درس طب الأطفال في مصر لمدة 9 سنوات وتخرج في كلية الطب بجامعة الإسكندرية عام 1972، ونال منها لاحقاً درجة الماجستير في طب الأطفال، ثم عمل طبيبًا مقيمًا في مستشفى ناصر (المركز الطبي الرئيسي في خان يونس) عام 1976. وبدأ الرنتيسي العمل في مجال الطب عام 1972، وتزوج عام 1973م وهو أب لستة أطفال (ولدان و أربع بنات).
وعن بداية مشواره مع الحركة الإسلامية يقول الرنتيسي إنه تأثر أثناء دراسته بمصر كثيرًا بالشيخين محمود عيد وأحمد المحلاوي، وكانا يخطبان في مسجدي السلام بـ(ستانلي، والقائد إبراهيم) بمحطة الرمل في الإسكندرية.
وأضاف الرنتيسي: "كانت الخطب سياسية حماسية؛ فمحمود عيد كان يدعم القضية الفلسطينية، وكان يواجه السادات بعنف في ذلك الوقت؛ وهو ما ترك أثرًا في نفسي، فلما عدت من دراسة الماجستير بدأت أتحسس طريقي في الحركة الإسلامية مقتديًا بأسلوبه ونهجه"، موضحًا أن أول مواجهة له مع الاحتلال الصهيوني كانت عام 1981م حيث فرضت عليه الإقامة الجبرية ثم اعتقل عام 1983م على خلفية رفضه دفع الضرائب لسلطات الاحتلال الصهيوني.
كان الرنتيسي أحد قيادات الإخوان المسلمين عندما شارك الشيخ أحمد ياسين في تأسيس حركة حماس وإطلاق الانتفاضة الفلسطينية الأولى في العام 1987م، ويقول الرنتيسي عن ملابسات إنشاء الحركة ودوره فيها: "كنتُ مسئولَ مِنطقة خان يونس في حركة الإخوان المسلمين، وفي العام 1987م قررنا المشاركة بفاعلية في الانتفاضة، وكنا سبعة؛ الشيخ أحمد ياسين وعبد الفتاح دخان ومحمد شمعة وإبراهيم اليازوري وصلاح شحادة وعيسى النشار، وقد اخترنا اسما للعمل الحركي هو حركة المقاومة الإسلامية، ثم جاء الاختصار إلى حماس".
تعرَّض د. الرنتيسي جرَّاء تأسيس حركة حماس إلى ملاحقة جيش الاحتلال وقوَّات الأمن الصهيونية، واعتُقِلَ عددًا من المرَّات، وكان هو أول المعتقلين من قيادات حماس بعد الإعلان عن إطلاقها، وكان ذلك في العام 1988م، وبلغ مجموع فترات الاعتقال التي قضاها في السُّجون ومراكز الاعتقال الإداريِّ الإسرائيليَّة سبع سنواتٍ، وكان أحد المُبعدين من قيادات الانتفاضة إلى مرج الزُّهور في جنوب لبنان في العام 1992م، كما اعتُقِلَ في سُجون السُّلطة الفلسطينيَّة 4 مرات، وبلغ مجموع ما قضاه في زنازينها 27 شهرًا قضاها في العزل الانفراديِّ.
ويقول مستذكرًا تلك الأيام: "منعت من النوم لمدة ستة أيام، كما وضعت في ثلاجة لمدة أربع وعشرين ساعة، لكن رغم ذلك لم أعترف بأي تهمة وجهت إلي بفضل الله".
وقد حاولت السلطة اعتقاله أكثر من مرة، ولكنها فشلت بسبب حماية الجماهير الفلسطينية لمنزله.
ويقول المقربون من الرنتيسي إنه كان ذا قلب كبير، وصفه ابنه الكبير محمد بقوله: "إن الصورة التي في أذهان الناس عن والدي، أنه الثوري الشديد وهذا صحيح –لكنه داخل الأسرة، صاحب الحنان الكبير، والقلب الرؤوف الهادئ.. كنا إذا أصررنا على شيء ربما لا يريده، كان ينزل عند رغبتنا ويراضينا، خطابه المتشدد في الإعلام لم يكن في المنزل. وأكثر حنانه ومحبته كانت لأحفاده، فقد كان يحب الأطفال".
كما كان ربانياً يرى المقاومة دليلاً على صدق الإيمان، وأن الإيمان وقود المعركة. وكان قوي الأمل بنصر الله القريب، حتى وهو يعيش أقسى الظروف. وأن هذه المرحلة القاسية التي تحتاج إلى الكثير من الصبر والتحمل، هي المرحلة الماهدة لمرحلة التمكين في الأرض إن شاء الله.
وكان صاحب نخوة ومروءة ونجدة، يضني جسمه من أجل الآخرين، وخاصة الفقراء والمحتاجين.. كان في سبعينيات القرن الفائت يذهب إلى القرى النائية في البادية مشياً على قدميه، قاطعاً العديد من الكيلومترات، وهو يحمل حقيبته الطبية، من أجل تطبيب الفقراء، وختان أطفالهم مجاناً..
وكانت له أنشطة خيرية أخرى في القرى والأرياف التابعة لخان يونس، ضمن أنشطة جماعة الإخوان المسلمين.. والإيثار من السجايا التي صاحبته منذ صغره، وحتى لحظة استشهاده، فعندما كان صغيراً اشترى حذاء مستعملاً من المخيم، وعندما قرر أخوه الذي يكبره، الذهاب إلى السعودية للعمل، ولم يكن له حذاء، آثره عبد العزيز بحذائه، وبقي حافياً.
كان الدكتور عبد العزيز الرنتيسي بمجرد ما يؤخذ إلى أقباء التحقيق يهاجم المحققين ويشتبك معهم باللكمات حتى يغمى عليه من شدة ما يلقى من أهوال التعذيب.
ولم يأخذوا منه أي اعتراف، ولائحة الاتهامات ضده كانت تتم باعتراف الآخرين عليه، وليس باعترافه هو.
ومن أقوال الرنتيسي الشهيرة إن "أرض فلسطين جزء من الإيمان. وقد أعلنها الخليفة عمر بن الخطاب أرضاً للمسلمين قاطبة. ولهذا، لا يحق لفرد أو جماعة بيعها أو إهداؤها."
كما لا يزال الكثيرون حتى الآن يتداولون مقطع الفيديو الذي رد فيه على مراسل سأله عقب استشهاد الشيخ أحمد ياسين عن تصرفه لأن جيش الاحتلال أعلن أنه على قائمة الاغتيالات هو الآخر، فرد باللّغة الإنجليزية:: " «هل نحن خائفون من الموت؟ إنه الموت.. سواء بالقتل أو السرطان.. الموت واحد.. نحن جميعا ننتظر آخر يوم في حياتنا.. لن يتغير شيء.. سواء كان بالأباتشي أو بالسكتة القلبية.. وأنا أفضل الأباتشي I prefer Apatchi"، وهي الطريقة التي استشهد بها الرنتيسي فعلا.
استيقظ الرنتيسي فجر يوم السبت 17 أبريل 2004م واغتسل، وتعطر، وانطلق لسانه ينشد، على غير عادته، نشيداً إسلامياً مطلعه: أن تدخلني ربي الجنة … هذا أقصى ما أتمنّى
لتكون من آخر الكلمات التي تفوه بها أسد فلسطين الشهيد الرنتيسي.
وفي مساء 17 أبريل 2004م قامت مروحية صهيونية تابعة للجيش الصهيوني بإطلاق صاروخ على سيارة الرنتيسي فقتل مرافق الدكتور ثم لحقه الدكتور عبد العزيز الرنتيسي وهو على سرير المستشفى في غرفة الطوارئ، ومن وقتها امتنعت حركة حماس من إعلان خليفة الرنتيسى خوفًا من اغتياله.
وقد شارك أكثر من نصف مليون فلسطيني في تشييع الشهيد الرنتيسي ومرافقيه اللذين استشهدا معه، وقامت مظاهرات حاشدة في سائر الدول العربية، والإسلامية والأجنبية تندد بالجريمة النكراء.