في زمن قلّت فيه الصروح الطبية المجهزة، والخدمات الطبية الممتازة، خاصة لأبناء الأقاليم، وقف مستشفى "أول مايو" ببنها الذي أقامته نقابة النقل البري منارة يأوي إليها أبناء محافظة القليوبية وما يجاورها من محافظات كالمنوفية والشرقية والدقهلية، حيث بث الصرح الشامخ بطوابقه المتعددة وأجهزته الحديثة وأطبائه المهرة وتكلفتها غير المبالغ فيها الأمل في قلوب العديد من المرضى، وخفف الآلام عن كثير من الذين يعانون أوجاع السقم..
غير أن المنارة التي أرسلت خيوط الأمل في قلوب المرضى.. سرعان ما أطفأت أنوارها وأغلقت أبوابها، وأصبح الصرح الشامخ للاستشفاء وأسطورة المستشفيات بالقليوبية لا أحد يرتاده؛ اللهم إلا القطط التي تدخل وتخرج من نوافذه المكسرة، وقضبان بواباته المغلقة التي علاها الصدأ.
مستشفى أول مايو التخصصي التي دخلت عالم الاستشفاء عام 2000 بعدما أنشأتها نقابة النقل البري بهرت الأعين بأجهزتها الحديثة التي وجد فيها المرضى ضالتهم وراحتهم المنشودة، حتى إن كثيرا من المرضى من القليوبية والمنوفية والشرقية الذين أعيتهم السبل في العاصمة دون جدوى، وجدوا دواءهم بجوارهم في المشفى الذي تكلفت تجهيزاته نحو 35 مليونا حينها.
غير أن الصرح الذي كانت تفاخر به بنها وتتفاخر به نقابة النقل البري، لم يعد يقصده إلا القطط، وانتهى بمأساة تشرد على إثرها 142 موظفا من العاملين بها لم يقبضوا مليما منذ أعوام، وتركهم الفساد وسوء الإدارة اللذان تعاقبا على المستشفى ضحية تبحث عن حقها المهدور، بجانب مرضى وأهالٍ ما لبثوا أن وجدوا راحتهم حتى فقدوها من جديد.
في البداية يقول أمين محيي أمين عضو نقابة النقل البري وشهرته (تامر): "لو رأى أي شخص محب لوطنه وفي قلبه ذرة من إشفاق على أهل البلد هذا المستشفى وهو يعمل ثم رآها الآن بعد خربت وكسرت نوافذها وسرقت محتوياتها فلابد أن يبكي حال هذا الصرح الذي كان يشع أملا في الشفاء لكل محتاج".
ويضيف بنبرة متهدجة: "لقد صدئت الآن أجهزتها ونهبت محتوياتها، وتلفت أرقى الأجهزة.. كل شيء انتهى، حتى التكييفات والحضانات وأجهزة الآشعة.. كل شيء".
ويتساءل بغضب: "لقد حصلت على أحكام قضائية سابقة بأن أكون عضوا باللجنة التي تدير المستشفى بحكم موقعي النقابي بالقليوبية التي تشرف على المستشفى، ورغم ذلك لم تنفذ أحكام القضاء، ولا أدري يكون ذلك؟؟ كيف لا يتم تنفيذ أحكام القضاء؟".
ويؤكد تامر محيي أن الأمر الآن بات شبه متوقف على موافقة واحدة تحمل توقيع رئيس نقابة النقل البري جبالي محمد جبالي لتبدأ إجراءات إعادة التشغيل مرة أخرى، ولا يوجد أي سبب لتأخر إعادة العمل.
إغلاق مع سبق الإصرار
مأساة المستشفى يرويها (هاني) الذي كان يعمل موظفا بها قائلا: "المستشفى الذي دخل الخدمة عام 2000 كان يعمل به 142 موظفا تحت مسمى التعيين المفتوح وفقا لقانون قانون عام 1979م، وهو مستشفى يتبع نقابة النقل البري أنشأه حينها محيي أمين رئيس نقابة النقل البري بالقليوبية آنذاك، غير أن أمين الذي كان له نشاط سياسي وترشح لمجلس الشعب مرتين عام 2000 و2005، وأدى ذلك إلى توتير العلاقات بينه وبين عدة جهات بالمحافظة، انتهى بإصدار محافظ القليوبية حينها المستشار عدلي حسين قرار إقالة محيي أمين من إدارة النقابة والمستشفى".
ويواصل: "عينت بعدها لجنة من قبل المحافظ عدلي حسين لإدارة المستشفى من النقابة والمستشفى تحت رئاسة الدكتور نبيل دنيا كمشرف مالي ووزاري من المحافظة، واستمر العمل في المستشفى مدة عامين آخرين".
ويستدرك قائلا: "إلا أن اللجنة المعينة كان بها عدة أشخاص لهم مآرب في المستشفى، فتم عمل مزاد وهمي لتأجيرها مدة 5 سنوات، وتم تسوية المزاد سرا في سبيل حصول شقيق أحد أعضاء اللجنة التي كلفت بإدارتها على عقد الإيجار".
ويضيف: "غير أن أمر المزاد لم يمر مرور الكرام، فسرعان ما فاحت روائحه، وأمام الأخبار المتواترة، والأنباء المتسارعة، قام المستشار عدلي حسين بإحالة المسئولين عن المزاد الوهمي للنيابة، ومع ذلك فإن العام الذي واصل فيه المستشفى عمله بعد ذلك بدأت تحدث فيه مضايقات للموظفين، وضغوط لتسريحهم وتوزيع الأجهزة.. وكأنه إغلاق متعمد.. ومع سبق الإصرار والترصد".
معاناة المرضى والموظفين
وبكل أسى يتابع هاني فصول مأساة الموظفين قائلا: تم الضغط على العاملين عن طريق جهات أمنية لتقديم استقالتهم مقابل اتفاقية جماعية تشمل توزيع مبالغ مالية تبدأ من (8000 حتى 15000) جنيه، وظلت سياسة العصا والجزرة وسط غموض موقف الموظفين الذين رفض أغلبهم التسوية التي اعتبروها مبهمة، لا هي تسوية معاش ولا هي مكافأة نهاية خدمة ولا أي شيء؛ وهكذا أصبحنا في الهواء منذ عام 2010 عندما صدرت قرارات الإغلاق والتشميع وانطفأت المنارة وتشرد الموظفون".
وبنبرة تفاؤل يواصل: "بعد الثورة حاول الموظفون إعادة فتح ملف المستشفى وحدثت مفاوضات بين عدلي حسين المحافظ السابق وبين الموظفين بصفته معه تفويض من عائشة عبد الهادي بصفتها وزيرة للقوى العاملة وصدر قرار بالعودة وإلغاء قرار الإغلاق تحت ضغط الموظفين وبحضور المستشار العسكري لكن لم يتم تنفيذه".
بعدها قابل الموظفون رئيس نقابة النقل البري جبالي محمد جبالي وأقر بالرجوع بشرط موافقة رئيس اتحاد عمال مصر ثم تولى منصب رئيس اتحاد عمال مصر بعد الثورة ولكنه لم ينفذ القرار، وصدر بعدها قرار من القوى العاملة يلزم النقابة بعودة الموظفين السابقين لأعمالهم عند إعادة فتح المستشفى لكن حتى الآن لم يتم تنفيذ القرار بعودة الافتتاح والذي ينتظر توقيعا من جبالي محمد جبالي لبدء الإجراءات".
ويضيف: لقد تمت مقابلة يوم 13 مارس الماضي شملت نائب وزير القوى العاملة عادل ريحان وجبالي والنائب السابق حينها محسن راضي عن دائرة بنها بالقليوبية وبعض موظفي المستشفى ولكن تم تأجيل قرار إعادة الافتتاح.
وبدورها تقول إحدى الموظفات السابقات بالمستشفى: لم نحصل على مرتباتنا من مارس 2010 وتقول أنا أول المتضررين، فزوجي كان يعمل في الشباب والرياضة وترك عمله للسفر إلى الخارج، ولدينا ابنة تحتاج مصروفاتها المتزايدة".
وتضيف باكية: "مازلت أبحث عن عمل، ولو كنت لقيت شغل كنت هقول ماشي ربنا قطع من هنا ووصل من هنا لكن حال البلد لا شغلة ولا مشغلة".
وبقليل من التفاؤل تمسح دموعها مضيفة: الموظفون عاد إليهم الأمل بعد الثورة، وسعوا لنائب الدائرة حينها الأستاذ محسن راضي وكان متعاونا معنا وأوصانا بألا نسكت عن حقوقنا وهو على علم بكل خطوة نخطوها وكل صغيرة وكبيرة، ونحاول بكل بشتى الطرق وقابلنا مسئولين كثر لكن رغم كل الآمال التي ازدادت لم تتم إعادة الافتتاح بعد.
قبلة المرضى.. صارت خرابة
ومن جانبه يشير سائق يقطن بجوار المستشفى إلى النوافذ المحطمة وأكوام القمامة التي تسد مداخل المستشفى قائلا: "لازلت أذكر كيف كانت تمتلئ الشوارع المحيطة بالمستشفى بالسيارات التي تقل المواطنين والأهالي والمرضى من كل مكان بالمحافظة بل والمحافظات المجاورة إلى المستشفى لتلقي العلاج الذي لم يكن تتوفر أجهزته في أي مكان آخر.. لقد كان مشهدا تقشعر له الأبدان أن ترى أناسا أعياهم البحث عن العلاج وفقدوا الأمل ثم ما لبثوا أن عاد إليهم الأمل مرة أخرى وصار يشع نوره من عيونهم".
وبأسف يقول: "الآن صارت خرابا، لقد كنت أفتخر أنني كسائق أنتمي لنقابة النقل البري أرى مستشفى كهذا أنشأته نقابتي، وأكون سعيدا للغاية عندما أنقل المرضى إليها آملين من الله الشفاء، وقد كانت بها نحو 4 غرف عمليات متخصصة وعيادات خارجية واستقبال وكات أي كشف طبي فيها للأهالي لا تزيد تكلفته على 10 جنيهات مع أطباء أكفاء وأجهزة طبية متميزة ومقارنة بالمستشفيات الخاصة تصبح هي الأفضل".
ويتابع: "كنت كلما أوصل لها مريضا أدخل فيها لأدير بصري في طرقاته وأسعد بخلية النحل التي تروح هنا وتجيء من هناك، ولكني الآن أشعر بالخزي من التباطؤ في إعادة افتتاحها، فهي لم تكن تخدمني كسائق فقط، لقد كانت خدماتها ممتدة إلى جميع الأهالي".
ورغم الموافقات المتعددة من جهات كثيرة على إعادة افتتاح مستشفى أول مايو التخصصي في بنها، إلا أن الأهالي والموظفين بها لا يعرفون سببا لعدم افتتاحها حتى الآن متسائلين عن السبب في هذه البيروقراطية العجيبة التي أصابت أحلامهم بالعودة بالفتور، وكأن ثورة لم تمر من هاهنا!.