لم أكن يوما أتصور أن هناك وجها آخر لبلادى لا يحتمله عقلى، ولا يحيط به خيالى، وجوه ليست كتلك الوجوه التى التقيتها يوما فى المسيرات اليومية التى نقوم بها فى مواجهة انقلاب الظالمين، وجوها لم أرها طوال عام كامل حكم فيه الرئيس المنتخب تعرض فيه لكل أنواع الضغط النفسى من إهانات شخصية وهجوم غير مسبوق على حاكم مختار من شعب حر، وحرية لم يحلم بها شعب من الشعوب، وطهارة يد لم تعرفها أروقة الحكم فى مصر يوما، وقلوب حرة تعشق تراب بلادها وتموت دون حريتها وحرية الآخرين.
وجوه كالحة مظلمة تحمل حقدا ما تصورت أن يكون فى بشرى من قبل، ورغم شهودى كثيرا من المذابح فى رابعة ومسيرات بعدها إلا أنه يبدو أن هناك نوعا من البشر هان عندهم القتل ولم تهن عندهم كرامتهم وإنسانيتهم، هكذا نحن، وهكذا تربينا، وهكذا غرسوا فينا، الحرية أغلى من الحياة، والكرامة أغلى من الدم.
انطلقت المسيرة وسط تحذيرات مشددة بأن البلطجية والأمن سوف يعتدون عليها، وأنه يجب علينا الحذر، لكن ما الذى نحذره، وكيف نحذره، الحذر الوحيد هو عدم السير فيها، وتجنب ما يمكن أن يحدث من مواجهات بيننا وبينهم، مواجهات مجحفة وغير متوازنة، مجموعة من النساء والفتيات والطلبة وبعض الرجال الذين تبقوا ممن اعتقلوا أو قتلوا أو مطاردون من أجهزة الانقلاب.
لم يكن القرار سوى بالاستمرار والوصول بالمسيرة إلى النقطة المعتادة والشوارع المتفق على السير فيها، لكن قوات الانقلاب لم تمهلنا دقائق حتى بدأت بالاعتداء علينا فى شراسة لم نعهدها من قبل بهذا الحجم، قنابل الغاز أحاطت بنا من كل اتجاه بكثافة، المدرعات حاصرتنا أكثر من مرة لنتفرق فى شوارع جانبية ثم نلتقى مرة أخرى فى حالة ما يشبه الماراثون وفى تصميم عجيب من الشباب على المواصلة، وقعت حالات كثيرة إثر الاختناق الناتج عن كثافة الغاز المستعمل، قنابل صوت مفزعة لاحقتنا من شارع لشارع ومن مكان لمكان، سمعنا طلقات نارية وحالة إصابة لفتاة أصابتها الرصاصة فى بطنها وخرجت من ظهرها.
اضطررنا للاحتماء ببعض العمائر، منا من استطاع الوصول إليها ومنا من أدركه البلطجية ليقذفونا بالزجاج والطوب حتى حاصرونا تماما مع مجىء قوات شرطة الانقلاب ليلقوا القبض علينا (أنا وابنتى)، كنت منهارة تماما من تأثير الغاز الكثيف فطلبت ممن كانوا يرافقونا فى سيارة الشرطة الوقوف أمام إحدى الصيدليات ليشترى لى دواء للقلب أحتاج إليه خاصة فى حالة الاختناق تلك التى أمر بها، غير أنه حتى لم يقم بالرد على، بل استمر فى السير وبسرعة غير عادية إلى قسم الشرطة ليصطحبنا إلى هناك فى حراسة ثلاث سيارات كبيرة محملة بجنود الأمن المركزى، ووسط طلقات نارية احتفالا بخطفنا من الشارع.
توجهنا لداخل قسم شرطة دمياط الجديدة لأتعرف على ذلك العالم المجهول الذى لم أكن أعرف عنه شيئا من قبل.
كررت طلبى بأننى احتاج إلى الدواء فقال لى أحدهم وهو مخبر أمن دولة أعرفه جيدا: "وإيه اللى خرجك من بيتك أصلا"، ورغم حاجتى للدواء حقيقة إلا أننى كان من الممكن أن أترفع عن طلبه لكننى قلت فى نفسى لأكشفهم أمام أنفسهم أنهم ليسوا رجالا، بل إنهم ليسوا بشرا.
كنت أحسب أن أخلاق الرجولة فى مصر غير مرتبطة بالاتجاه، فالرجولة والشهامة، والأخلاق، ومعاملة النساء هى بديهيات بالنسبة للرجل الشرقى كما تعلمنا دوما، لكن الحقيقة المرة غير ذلك تماما، الحقيقة أن هناك نوعا من الناس باع كل شىء: الدين، الضمير، الأخلاق، الوطن، وأخيرا رجولتهم.
سباب غريب ربما بعضه التبست علينا معانيه غير أننا عرفنا أنه انحطاط بشرى غير مسبوق فى مصر، تهديدات لفتيات صغيرات لم يدركن معنى تلك التهديدات أو يعرفن ماذا يقصد بها الضابط الذى تلفظ بها لهن، شتائم قبيحة واتهامات أقلها الكفر والخروج على الدين وخيانة الوطن لمجرد اختلافك معه فى الرأى، اتهامات للرئيس الشرعى بأنه باع الوطن، وقد نسوا من الذى باع ومن الذى اشترى.
كل هذا كان فى جانب، وهول المشهد الذى رأينا فيه أولادنا المعتقلين فى جانب آخر، رأيت مجموعة من الشباب أعرف بعضهم، هم من خيرة الشباب، هم فخر للوطن، هم يتمنى كل إنسان أن يكون هذا ابن له من حسن خلقه وفهمه، ضرب شديد ترك إصابات بالغة ورأيت الدماء الطاهرة تتناثر من رءوسهم ووجوههم الوضيئة، رجال أطهار يضربون بخسة وندالة من مخبر أو أمين شرطة ليسوقهم أمامه بعنف بالغ وغير إنسانى فهؤلاء ليسوا بشر، إنهم شياطين الإنس، بداخلهم كراهية غريبة لأصحاب الشرعية، لا يقبلون بوجودنا أصلا، لا يعرفون مبدأ التعايش، أو يسمعوا عن شىء اسمه الاختلاف فى الرأى، هم لا يرون إلا أنفسهم وبعدها الطوفان، هم لا يهمهم مصلحة الوطن، فليغرق الوطن إن كان سينقذه الإخوان المسلمون أو الإسلاميون، هم لا يعرفون غير أنهم يجب أن يحكموا هذا الشعب شاء أم أبى، وليس من حق أحد الإباء.
قبل خروجنا، أطلقوا علينا سهاما مسمومة من أفواههم القذرة، شتائم لم يذهلنا رصاصهم مثلما أذهلتنا تلك الشتائم.
تلك هى أقسام الشرطة فى بلادى الآن، وهذا هو فعل الانقلابيين مع الحرائر اليوم، وتلك هى بعض جرائمهم مع الأحرار.
السكوت خيانة، والتراجع خيانة.
بالمعتقلات أشرف أهل مصر يجب أن يخرجوا منها وأن يدخلها المجرمون الحقيقيون.
ستخسر مصر كثيرا إن استمر الوضع كما هو أو طال عن ذلك.
أنقذوا مصر أيها الأحرار واملئوا ميادينها ولا تتراجعوا حتى يعود الحق لنصابه ويحكمنا من يتقى الله فينا.
مصر تغرق أيها الأحرار بتلك العصابة التى تحكمها فلا تدعوها فى يدهم، هم أجبن وأضعف مما تتخيلون رغم الهالة التى يحتمون خلفها، وقسما برب الكعبة رأيت الرعب فى عيونهم منا رغم ما يحيطهم من جنود وسلاح رغم أننا سجناء عندهم. كنا نحن الأحرار وهم المسجونون.
لن يستمر الانقلاب طويلا، فقط استعينوا بالله واصبروا واثبتوا، فإنما النصر صبر ساعة
.