اقتحم نحو خمسين شخصا من رجال الأمن مقر المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية قبل منتصف ليلة الخميس 19 ديسمبر،
وألقوا القبض على ستة من العاملين به، وقاموا بتحطيم بعض محتويات المكان، والاستيلاء على بعض أجهزة الكمبيوتر الموجودة به.
نُقل الستة إلى مكان غير معلوم، وفي الصباح تم إطلاق سراح خمسة منهم، في حين احتجز أحد النشطاء (محمد عادل من حركة 6 أبريل).
وطبقا لما تناقلته مواقع التواصل الاجتماعي على لسان المحامي محمود بلال، الذي كان أحد المفرج عنهم، فإنهم تعرضوا للإهانة والضرب خلال فترة احتجازهم، وقد كسرت نظارته جراء ذلك، حيث كان الضرب هو الرد على تساؤل يتفوه به أي واحد منهم عن سبب ومكان احتجازه.
لم يكن مصادفة أن يتم اقتحام المقر في ليلة الإعداد لعقد مؤتمر في نفس المكان صبيحة الخميس للتضامن مع عمال بعض المصانع الذين أهدرت حقوقهم وتعرضوا للفصل التعسفي.
وطبقا للمعلومات التي تم تسريبها فإن الاقتحام تم في حين كانت المجموعة الموجودة داخل المقر تعد شريطا مصورا للعرض أثناء جلسة المؤتمر المفترض.
المنظمات الحقوقية المصرية أصدرت بيانات عدة أعربت فيها عن رفضها واستنكارها لما حدث، خصوصا أنها اعتبرته رسالة لا تستهدف مركز الحقوق الاقتصادية والاجتماعية وحده، ولكنها موجهة أيضا إلى جميع المنظمات الحقوقية التي تنشط في مجال الدفاع عن الحقوق والحريات العامة.
وفيما ذكرت بيانات تلك المنظمات فإن توقيت الرسالة له دلالة أيضا.
صحيح أن الاقتحام تم قبل عقد مؤتمر التضامن مع العمال المضربين، إلا أنه تم أيضا بعد الانتهاء من إعداد مشروع الدستور الجديد والتحضير للاستفتاء عليه، واتساع دائرة الحوار حول ترتيبات إقامة الوضع المستجد، وما إذا كان ينبغي إجراء الانتخابات البرلمانية أولا أم الرئاسية.
وحين يتزامن الهجوم على المركز الحقوقي في هذه الظروف فإن ذلك يفهم باعتباره مؤشرا على الاتجاه إلى إقامة الدولة الأمنية التي تعصف بالحقوق والحريات وتعتبر المنظمات المدافعة عنها خصما يجب قمعه وإقصاؤه.
ما جرى يثير القلق من نواح عدة،
ذلك أننا بصدد مشهد مأخوذ بالكامل من عصر مبارك والعادلي.
وقد رأيناه في عناصر الجهاز الأمني الذين ارتدوا الثياب المدنية، واقتحامهم المركز دون أن يكون معهم أي سند قانوني ذلك (إذن تفتيش مثلا)،
ثم تحطيمهم للأثاث الموجود واعتداؤهم بالضرب على الحاضرين، والاستيلاء على أجهزة الكمبيوتر.
وبعد ذلك نقل المحتجزين إلى مكان مجهول وترويعهم طوال الليل،
كل ذلك لأن المركز كان بصدد عمل سلمي وقانوني لا يعيبه إلا شيء واحد هو أنه على غير هوى السلطة.
الملاحظة الأخرى المهمة أن تصرف الجهاز الأمني اتسم بدرجة من الجرأة مثيرة للانتباه.
إذ حين يلجأ إلى الأساليب القديمة ذاتها، في الاقتحام والضرب والترويع فإنه يقول لنا بصريح العبارة إن نظام مبارك عاد مرة أخرى، وإن الثورة كانت مجرد فرقعة أحدثت دويا في فضاء المنطقة حينا من الدهر، ثم عادت الأمور إلى سابق عهدها مرة أخرى.
الأمر الثالث أن عنف الأجهزة الأمنية إذا كان قد تم تبريره بذريعة مكافحة الإرهاب فإن ما حدث يدفعنا إلى إعادة النظر في ذلك الادعاء،
بمعنى أن القمع الذي تمارسه الأجهزة الأمنية هو في حقيقته سياسة ممنهجة للتصدي لكل صور المعارضة في البلد، السلمية وغير السلمية.
ورغم أن المنظمات الحقوقية يتعذر تصنيفها ضمن «المعارضة» ودورها لا يتجاوز حدود «المراقبة»، حيث ينحصر في محاولة الدفاع عن الحقوق والحريات العامة، إلا أنها لم تسلم من الأذى المفرط.
الأمر الرابع أن ما حدث ليس عدوانا على مركز حقوقي فحسب، وليس رسالة تحذير للمراكز والمنظمات المماثلة الأخرى فحسب، ولكنه أيضا يشيع قدرا من المشاعر السلبية إزاء التغير الذي طرأ في مصر بعد الثالث من يوليو، الذي نراه الآن بمثابة إحياء للدولة الأمنية وانقلابا على أهداف وشعارات 25 يناير 2011، التي نادت بالحرية والكرامة الإنسانية.
خلال الأسبوع الماضي تردد مصطلح «إبهار العالم» على لسان الرئيس المؤقت المستشار عدلي منصور، وسمعنا المصطلح ذاته يتردد في أحاديث وخطابات عدد آخر من المسؤولين.
وكان واضحا أنهم مهتمون بسمعة البلد في الخارج، وقصدوا بذلك تشجيع الناس وحقهم على الاحتشاد والمشاركة في الاستفتاء على الدستور.
ولا أعرف كيف أقنعوا أنفسهم بأن ظهور الحشود في الصور يحقق ذلك الإبهار المنشود، ناسين أن التغول الأمني والقمع الذي يمارس بحق الناشطين والمعارضين يشوه سمعة البلد ويفضحها، بما يمحو أي تأثير متوقع لصور الحشود أيا كان عددها.
ناهيك عن أن ممارسة المجتمع لحريته وإحساس أهله بالكرامة وثقتهم في احترام مؤسسات الدولة للقانون ولمبادئ الإنسان أهم بكثير من إبهار العالم.