قديمًا قال هيرودوت «مصر هبة النيل» قاصدا أن النيل هو من وهب مصر الحياة والوجود، وأنه لولا النيل ما قامت على هذه البقعة من أرض الله حضارة..
ولكن يبدو أن دستور سلطة الانقلاب الذى أعد فى السر جعل مصر أيضا هبة للعسكر كما يقول نشطاء الإنترنت، بعد زيادة نفوذ المؤسسة العسكرية فى الحياة السياسية، وتكريس ليس فقط امتيازات يتمتع بها الجيش منذ قرابة ستة عقود بل وإضافة امتيازات أخرى للمؤسسة العسكرية فى الحياة السياسية.
(الدستور الجديد) الذى وضعه الانقلاب –والذى خالف حتى الإعلان الدستورى غير الشرعى الذى أصدره الرئيس المؤقت فى مادته رقم 28 التى تنص على إجراء (تعديلات على دستور 2012 المعطل) لا وضع دستور جديد- أبقى على اثنين من الامتيازات التى تتمتع بهما المؤسسة العسكرية منذ إطاحتها بالملكية فى العام 1952؛
وهما: الإبقاء على موازنته المالية بعيدة عن رقابة البرلمان، ومحاكمة المدنيين أمام محاكم عسكرية فى الجرائم التى يعتبر أنها تمسه، والتى فوجئنا باللواء مدحت رضوان رئيس هيئة القضاء العسكرى يمدها لحد محاكمة المدنى الذى يتشاجر مع عامل بمحطة بنزين وطنية "عسكريًا"!!.
وجاء النص على امتياز ثالث وخطير ليظهر انغماس المؤسسة العسكرية فى الحياة السياسية بصورة أكبر تتعارض مع دورها الوطنى التقليدى فى الدفاع عن حدود مصر، وينتقص بشدة من صلاحيات السلطة التنفيذية بالنص على ضرورة موافقة المجلس الأعلى للقوات المسلحة على تعيين وزير الدفاع خلال الدورتين الرئاسيتين المقبلتين، ومن ثم يؤكد مركزية دور الجيش فى الحياة السياسية، خاصة بعدما عزل الرئيسى الشرعى مرسى فى 3 يوليو 2013م.
خلاصة الدستور المزور الانقلابى تكشف عن واقع مصر الانقلابى الحالى وإعادة دولة العسكر مرة أخرى، ولكن الأخطر فى تقديرى هو أنه يكشف عن العداء للإسلام لا الإخوان عبر نزع مواد الهوية الإسلامية من مصر عبر طرد الأزهر من الدستور وتجريده من صلاحياته، ونزع أى صلة له بتفسير مبادئ الشريعة الإسلامية لتظل فضفاضة يفسرها القضاة حسب مطالب السلطة، وجعل قصر تفسير الشريعة على المحكمة الدستورية العليا، المرجعية للقضاء لا للإسلام أو أى مؤسسة إسلامية تعبر عنه!
أيضا منع الدستور المزور الأحزاب على أساس دينى ما يعنى حل الأحزاب الإسلامية التى نشأت بعد ثورة 25 يناير وتجريمها، والسماح بالمقابل لكل الملل والطوائف والاتجاهات السياسية بتأسيس أحزاب!.
المفارقة أيضا أن ديباجة دستورهم السرى خلت من أى جملة تعبر عن الهوية الإسلامية لمصر، وجعلت مواثيق الأمم المتحدة بديلا للإسلام، ولكنها نصت بالمقابل على أن: "المصريون قدموا آلاف الشهداء دفاعًا عن كنيسة السيد المسيح" ووضعت عبارة البابا شنودة المشهورة: "مصر وطن نعيش فيه ويعيش فينا" فى الديباجة، كما نصت "مادة 244" على ما سمى "تمثيل ملائم" للشباب والمسيحيين فى أول مجلس للنواب يُنتخب بعد إقرار هذا الدستور، ما يؤشر لترسيخ فكرة كوتة للمسيحيين رغم نفى هذا الأمر، وألزم الدستور مجلس النواب بالأمر بأن يصدر فى أول انعقاد له قانون الكنائس ما جعل البعض يتساءل عن حقوق الأقلية (المسلمة) فى الدستور!!.
الدستور المزور تضمن أيضا عبارات غريبة تسير التساؤل من عينة: (عدم بيع مصر أو أى جزء منها) فهل البيع إجراء محتمل؟.. ومن عينة النص على (عدم تجزئة مصر) ما يثير التساؤل أيضا: "هل هذه سياسة محتملة؟ وهل تحتاج لتجريم خاص فى دستور أى دولة؟!"، ومن عينة النص على (ضمان نزاهة الانتخابات) ما يثير الاستغراب، لأن الانتخابات يفترض أنها نزيهة، فهل النص على هذا مؤشر للتزوير مستقبلا بحيث يخرج لنا أحدهم ليقول: لم يحدث تزوير للانتخابات أو الاستفتاء لأن الدستور نص على هذا!!
للأسف.. أى دستور فى العالم يكون حصيلة وانعكاسا للواقع السياسى القائم.. ولهذا فالدستور السيئ يظهر فى أوقات غياب حقيقى للديمقراطية والحريات، فيما الدستور الجيد يأتى انعكاسا لحالة الحرية والديمقراطية المنتشرة.. ومن الطبيعى أن يأتى دستور 2013 المزور من أسوأ دساتير مصر لأنه تم فى أوقات إقصاء وتطهير عرقى سياسى لممثلى قوى سياسية إسلامية حازت على 70% من أصوات المصريين فى آخر انتخابات برلمانية، وفى أعقاب انقلاب عسكرى أنهى الحكم الشرعى المنتخب، وفى ظل حمامات دماء للمصريين المعترضين على الانقلاب، وتولى كتابته حفنة من العلمانيين والكارهين للحضارة والشريعة الإسلامية.