منذ أربعين عاما حقق الجيش المصرى العظيم نصرا تاريخيا على الجيش الصهيونى، بعبور قناة السويس، وتحطيم خط بارليف المنيع، وتحطيم أسطورة الجيش الإسرائيلى الذى لا يهزم.
فبعد هزيمة ١٩٦٧ المسماه بالنكسة، وبعد التغيير الذى حدث فى القيادة السياسية بمصر بدأ التخطيط لاستعادة وتحرير الأراضى العربية والمصرية المغتصبة.
وبعد دراسة وبحث من القيادة السياسية والعسكرية كان التوافق من قبل القيادتين على وجوب إعادة بناء الجيش، عقيدة وتسليحا وتدريبا.
فكان الاستدعاء للدعاة المخلصين، وعلى رأسهم الداعية الشيخ الغزالى رحمه الله، فنزلوا الخنادق مع القادة والجنود يبثون فيهم روح الجهاد فى سبيل الله، وفضل الشهادة فى سبيل الله، وفضل الرباط، فاستعذبوا مشقة العيش بالخنادق ومشقة التدريب والتأهيل.
وأصبح الجميع على أهبة الاستعداد انتظارا لإشارة الانطلاق التى ما أن أعلنتها القيادة إلا وانطلق الجميع، القادة يسابقون الجنود، والجميع تجأر حناجرهم وألسنتهم بصيحة (الله أكبر).
فعبروا القناة وحطموا خط بارليف، وفر الصهاينة كالجرذان أمام أعينهم، وانهارت أسطورة الجيش الذى لا يقهر على أيديهم، وفى أنفسهم، وحينها اكتشفوا وتبينوا أنها كانت وهما زرعه الصهاينة وأعوانهم وأتباعهم.
وقف الشعب المصرى بكل مكوناته العقائدية والسياسية خلف جيشه، وكوَّن جبهة داخلية متينة منيعة، ولعلنا نذكر أنه لم ترتكب حادثه جنائية واحدة طيلة فترة الحرب.
من هنا أدرك الصهاينة وأعوانهم أن هناك خطرا استراتيجيا على الكيان الصهيونى، فبدأ العمل والتخطيط لاتفاقية "كامب ديفيد" المشئومة ببنودها السرية والمعلنة والتى وقعتها القيادة السياسية المصرية رغما عن اعتراضات قيادة نصر أكتوبر، وبعيدا عن رقابة مجلس الشعب المنوط به مراجعة وإقرار مثل هذه الاتفاقيات، فى الوقت الذى كان الكيان الصهيونى يعرض تفصيلاتها على الكنيست.
ومنذ توقيع اتفاقية كامب ديفيد انتقلت المواجهة مع العدو الصهيونى على الحدود لمواجهة مع الفصائل السياسية المعارضة للاتفاقية، وعلى رأسها التيار الإسلامى، وفى القلب منه الإخوان المسلمون، وأعلن النظام الحرب على هذه التيارات، والتى بلغت أوجها بإجراءات سبتمبر ١٩٨١، وتولى وزرها من بعده الرئيس المخلوع مبارك.
بلغت هذه الحرب أوجها بخطة 1992، والتى سميت بخطة تجفيف المنابع.
ولازلت أتذكر اجتماع مجلس الوزراء فى هذا العام، والذى استعرض فيه هذه الخطة، فتحدث وزير التربية والتعليم آنذاك، حسين كامل بهاء الدين، فقال إن خطة وزارته تستهدف تخريج جيل على عام ٢٠٠٥ لا يفرق بين دين ودين ولا بين جنس وجنس.
وجاء الدور على وزير الداخلية والذى قال إن خطته تستهدف أن فى عام ٢٠٠٥ لا يصبح فى مصر شىء اسمه الإخوان المسلمون، وتشاء الأقدار أن فى عام ٢٠٠٥ يصبح للإخوان عدد من الأعضاء بمجلس الشعب لم يحدث لهم فى تاريخ الجماعة منذ نشأتها، ومن الغرائب أن يحدث الزلزال أثناء انعقاد مجلس الوزراء، فهرع الوزراء مذعورين فى رسالة ربانية لم يستوعبوها حتى الآن.
وكان الحصاد المر لهذه الاتفاقية هو تسريح جميع الجنود والضباط الذين رأوا بأم أعينهم أكذوبة الجيش الذى لا يقهر، سواء بالتسريح الممنهج عقب توقيع الاتفاقية، أو بعامل الزمن حتى أصبح علاقة أفراد الجيش قادة وجنودا بنصر أكتوبر علاقة تاريخية لم يورثها لهم من سطروا بجهدهم ودمائهم النصر، ولكن تاريخ سُطر فى ضوء اتفاقية كامب ديفيد.
تغيرت العقيدة القتالية للجيش المصرى بفضل عقود من تغيير الوعى على يد سلاح الشئون المعنوية بالجيش المصرى، فأصبحت المقاومة الفلسطينية فى غزة خطرا على الأمن القومى المصرى، حتى وصل الأمر بأن يُوجه اتهام للرئيس المنتخب والمختطف من القادة الانقلابيين بالتخابر مع المقاومة الفلسطينية فى غزة، ووصل الأمر أنه إذا كانت حدودنا مع فلسطين حوالى ٢١٠ كيلومتر منها حوالى ١٥ كيلو مع غزة و١٩٥ مع الكيان الصهيونى، فأضحوا يرون أن ١٥ كيلو مع غزة هى التى تشكل خطورة على الأمن القومى المصرى يمارسون من خلالها سياسة الحصار وتضييق الخناق على الأشقاء فى غزة، وهو شريان الحياة لهم. وفى نفس الوقت نجد أن ١٩٥ كيلو مع الكيان الصهيونى يدخل منها الصهاينة بدون تأشيرة دخول للأراضى المصرية يعيثون فيها فسادا.
تغيرت عقيدة الجيش المصرى بزرع وتغذية روح العداء للفصائل السياسية المناوئة لاتفاقية كامب ديفيد، وعلى رأسها التيار الإسلامى، حتى وصل الأمر لعزل واختطاف رئيس وحل برلمان منتخبين من الشعب، وتعطيل دستور مستفتى عليه.
ثم ما شهدناه من جريمة لن يغفرها التاريخ لهؤلاء القادة الذين وضعوا الجيش المصرى فى وجه شعبه، فقتل وجرح فى يوم واحد الآلاف من أبناء هذا الشعب.
من أجل هذا انتفض الشعب، ولن يعود كما هتفوا فى فعالياتهم: (أنا مش هاركع أنا مش هاطاطى أنا مش هارجع إلا بصوتى).
انتفض الشعب ولن يعود إلا بعودة الشرعية، ممثلة فى رئيسه وبرلمانه المنتخبين، ودستوره المستفتى عليه، والذى شارك فى بناء هذه المؤسسات الشرعية التيارات السياسية المتورطة فى الانقلاب الدموى، فكما نعلم كم هددت هذه التيارات بالمقاطعة، ثم تعود وتشارك بكل طاقاتها وإمكاناتها.
انتفض الشعب ولن يعود حتى يعود الجيش إلى ثكناته ومهمته الأصيلة فى حماية الحدود من العدوان الخارجى، وحماية الإرادة الشعبية التى وُجدت عبر صناديق الاقتراع، وتحت حماية الجيش وإشراف القضاء المصرى، وتحت سمع وبصر العالم أجمع.
انتفض الشعب ولن يعود، حتى يبنى جيشه على عقيدة نصر السادس من أكتوبر، ويكون جيشا مؤهلا فنيا ومهاريا يصنع سلاحه، ويؤمن أنه ملك للشعب لا العكس، ويؤمن بوجوب أن يكون رهن إشارة القيادة السياسية المنتخبة من الشعب، حاميا لها ومنفذا لأوامرها.
حينها وفقط سيعود الشعب وسيهتف صادقا من قلبه: "الجيش والشعب يد واحدة".
(ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا).
والله أكبر وتحيا مصر حرة أبية.