تلكأت الولايات المتحدة وحلفاؤها في اتخاذ قرار بتوجيه ضربة عسكرية لسوريا، فبينما تخلى عنها حليفها الأوروبي الأساسي حينما اتخذ البرلمان البريطاني قرارا بعدم المشاركة في أي ضربة عسكرية ضد سوريا، بدت إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما نفسها عاجزة عن اتخاذ القرار وحدها، وتريد أن تحظي بتأييد من الكونجرس الأمريكي الذي كان في فترة "العطلة"، إلا أن المؤشرات كانت تقول أن الكونجرس لن يقبل مشروع القرار الي قدمته الإدارة الأمريكية، فيما أعلن أوباما نفسه أن الضربة قد تتم في غضون أسبوع أو شهر أو أكثر من ذلك.
في ظل هذا التردد والتلكؤ الأمريكي الغربي، استغل القطب الدولي السابق "روسيا" التي تسعى لاستعادة مكانتها العالمية، هذا التردد، وقدم مبادرة لوضع ترسانة السلاح الكيماوي السوري تحت إشراف المجتمع الدولي لتجنب ضربات عسكرية غربية، وهذه المبادرة التي قدمتها روسيا بعد مباحثات بين وزير خارجيتها ووزير خارجية نظام الأسد وليد المعلم، لاقت قبولا سريعا وفوريا م نظام الأسد، حيث أعلن المعلم "ترحيب الجمهورية العربية السورية بالمبادرة الروسية انطلاقاً من حرص القيادة السورية على أمن بلدها وحياة مواطنيها، وسعياً لمنع الضربة الأميركية".
بدت روسيا وكأنها وجهت صفعة قوية لإدارة الرئيس أوباما وقدمت فرصة ذهبية لنظام الأسد، حيث أنه لن يكون مسموحا له بحال استخدام السلاح الكيماوي ضد الشعب السوري، كما أن بقاءه بات ضرورة حتمية للكيان الصهيوني وبات في مأمن من أي عدوان صهيوني، إضافة إلى أن هذا السلاح لم يستخدمه الأسد كقوة رادعة للاحتلال الصهيوني على مدار العقود الماضية، أي أنه ترسانة السلاح الكيماوي باتت عبئا على النظام السوري وليست في صالحه، ولهذا فإن وضعها تحت إشراف دولي في مقابل عدم توجيه ضربة عسكرية تنال من القدرات العسكرية للنظام، يعد مكسبا كبيرا.
الولايات المتحدة لم تفوت الفرصة، واستغلت المبادرة الروسية أفضل استغلال يحقق لها ما تريد من أهداف، فهي تعرف أنها تواجه عراقيل فيما يخص الضربة العسكرية، التي تريدها للنظام وللجماعات الإسلامية في وقت واحد، فالكونجرس غالبا لن يوافق، وبعض الدول الغربية تخلت عنها، ولهذا فإن استغلال المبادرة هو الحل الأمثل، فأوعزت إلى فرنسا لتقديم مشروع قرار لمجلس الأمن الدولي يمنح النظام السوري 15 يوما للإعلان عن جميع مخزوناته من الأسلحة الكيماوية وتدميرها في أسرع وقت ممكن، والسماح للأمم المتحدة بالتحقق من جميع الأسلحة الكيماوية المعلنة والقيام بتحقيقات إضافية في الاستخدامات المفترضة السابقة للغاز السام، وإذا لم تمتثل النظام السوري، يتبنى المجلس إجراءات ضرورية أخرى تحت الفصل السابع.
كان الرد الأمريكي باطنا الفرنسي ظاهرا على المبادرة الروسية مفاجئا لروسيا، التي رفضت عقد جلسة لمجلس الأمن لمناقشة مشروع القرار الفرنسي حيث كان من المتوقع أن يركز الاجتماع على خطة روسية لوضع الأسلحة الكيماوية السورية تحت رقابة دولية، ووصفت مشروع القرار الفرنسي بأنه مشروع "لا يمكن قبوله"، ونقل عن مسئولين دبلوماسيين أن روسيا تعارض العديد من النقاط الواردة في مشروع القرار الفرنسي الذي يضع "جدولا زمنيا لمختلف مراحل تفكيك الترسانة الكيماوية السورية"، خصوصا الإشارة الى الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة.
بدأت روسيا تناور لتكون النتيجة في صالحها، ولكنها لم تستطيع أن تصمد أمام الإصرار الأمريكي والغربي على تدمير السلاح الكيماوي الروسي بحد أقصى العام القادم، وفق خطة زمنية تم الاتفاق عليها بعد ثلاثة أيام من المحادثات بين وزيري خارجية الولايات المتحدة وروسيا، نجحت خلالها الولايات المتحدة في توجيه صفعة لروسيا وسوريا على حد سواء، حيث لم يعد أمام بشار الأسد إلا أن يسلم ترسانته الكيماوية كاملة إلى الدول الغربية لتدميرها، أن يواجه المجتمع الدولي كافة تحت الفصل السابع بالأمم المتحدة، في حين ستصبح روسيا غير قادرة على مواجهة المجتمع الدولي وستتخلى عن حليفها مرغمة.
نجحت الولايات المتحدة بالإضافة إلى الوصول لقرار بنزع السلاح الكيماوي، في ضمان عدم وصول السلاح الكيماوي لحزب الله أو إيران عبر العراق، ذلك أن أي مراوغة من قبل النظام الأسدي ستقابل بحراك دولي رسمي من مجلس الأمن الدولي، ويجدر الإشارة في ذلك الصدد إلى إعلان كبير موظفي الكرملين السبت الماضي "سيرغي ايفانوف" بأن روسيا قد تغير موقفها حيال سوريا إذا ما تبين لها أن بشار الأسد "يخادع".
المستفيد الأكبر
إذا كان النظام الأسدي قد استفاد من هذه الصفقة في منع تعرضه لضربة عسكرية أمريكية غربية، وإذا كانت الولايات المتحدة قد استفادت بنزع السلاح الكيماوي من بين أيدي بشار الأسد في حفظ ماء وجهها وتوجيه صفعة قوية لروسيا التي تريد أن تنازعها النفوذ العالمي، فإن الطرف الأساسي الخفي في تلك الصفقة هو الكيان الصهيوني، الذي يعد هو المستفيد الأول والأخير فعليا من هذه الصفقة.
لقد ضمن الكيان الصهيوني ألا تقع الأسلحة الكيماوية في أيدي حزب الله وإيران، وعلى الرغم من أن بين الجانبين مصالح كثيرة خلف العنتريات الإعلامية والتصريحات النارية، إلا أن الكيان الصهيوني يريد أن يبقى جيشه أقوى جيش في المنطقة، لا ينازعه في ذلك أحد ولو كان من حلفائه المقربين، لأنه لا يضمن هؤلاء الحلفاء وتغير الأمزجة الشعبية في هذه الدول، وكمثال ما حدث في سوريا نفسها، فهي كانت قبل الثورة جبهة هادئة تماما ومطمئنة بالنسبة للكيان الصهيوني، إلا أن مستقبل سوريا اليوم غير معروف ولا طبيعة علاقتها مع الكيان الصهيوني، والتي لن تكون بأي حال مثلما كانت عليه قبل اندلاع الثورة في مارس 2011.
أصداء المبادرة على المعارضة السورية
كانت بعض فصائل المعارضة السورية وخصوصا السياسية منها، قد رحبت بالضربة العسكرية الأمريكية، ودفعت في اتجاهها وبذلت في سبيل ذلك كل ما تقدر عليه، ورتبت أمرها على أنها قادمة لا محالة، وبدأت تجهز نفسها لما بعد الضربة، وكيف سيكون حال النظام، وهذه الطائفة أو الطوائف التي تلاقت مصالحها على الضربة العسكرية، قد صدمت بالمبادرة الروسية والصفقة التي أبرمتها الولايات المتحدة على أساسها، وأسقط في يدها ما كانت تحلم به، وكان ردها أن رفضت هذه المبادرة، وأعلنت استمرارها في القتال ضد النظام الأسدي.
الفريق الثاني من المعارضة السياسية ويضم أساسا معظم الكتائب المسلحة في الداخل، فهي تدرك منذ البداية أن الولايات المتحدة لا تهتم للضحايا السوريين، ولا تأبه لسقوط الملايين منهم وليس مجرد الآلاف، وأنها تسعى إلى تمكين بعض حلفائها في سوريا ليحكموا البلاد بعد سقوط الأسد، ولهذا فلم يراهنوا على الضربة الأمريكية ولم يوافقوا عليها، وأدركوا أنها إن حدثت ستكون لخدمة المصالح الأمريكية فقط، وليس لمصالح الشعب السوري منها نصيب، وأنها ستطال حتما بعض فصائل المعارضة المسلحة التي لا تتفق مصالحها مع مصالح الولايات المتحدة.
هذا الفريق لم يتغير موقفه، فهو يرى أساسا أن الحل في سوريا لن يكون إلا بأيدي أبنائها، وأنه لا يمكن التخلص من نظام الأسد بكل هؤلاء الشهداء والجرحى والمصابين لتبقى سوريا تراوح مكانها تحت السيطرة الأمريكية والغربية، بل لابد من الخروج من كل سيطرة غربية أو شرقية، ليبقى القرار السوري نابع فقط من إرادة شعبها.