استنكارُ محاولة اغتيال وزير الداخلية واجب لا ريب، لكنّ تحرّي خلفيات الحدث أوجب، ذلك أن وسائل الإعلام المصرية أفاضت في وصف ما جرى، وأجابت عن السؤال ماذا؟
غير أن استيفاء هذه النقطة ليس كافياً، ليس فقط لأنه يتركنا نهباً للحيرة والبلبلة فحسب، ولكن لأنه يفتح الأبواب واسعةً لتكرار ما حدث أو توسيع نطاقه،وذلك خطر ينبغي تجنبه لذلك أزعم أنه من الأهمية بمكان أن نتعرف على أمرين هما:
من فعلها؟ ولماذا؟
في كلّ الأحوال نحن بحاجة للانتباه إلى أمرين:
أولهما أننا بصدد تطوّر نوعي في ممارسة العنف الذي بدأ بالطوب والحجارة والشوم، وتطور إلى استخدام الخرطوش والمولوتوف، وانتقل إلى الأسلحة الآلية والآر بي جي، ثم فوجئنا باستخدام السيارات المفخخة ـإذا صحّت الرواية الأمنية التي تحدثت عن محاولة الاغتيال الأخيرة ـ الأمر الذي يعني أنّ مؤشر العنف يتصاعد ويزداد خطره حينا بعد حين.
الأمر الثاني أن الحدث ينبغي أن يتم التعامل معه بدرجة عالية من الجدّية والمسؤولية تستبعد الهواة والمهرجين ودعاة الشيطنة الذين لا يهمهم مستقبل الوطن ولا استقراره وإنما غاية ما يشغلهم أن يصفّوا حساباتهم مع خصومهم.
وهو ما لاحظته في عناوين بعض الصحف التي صدرت أمس الجمعة 6 سبتمبر حين سارعت إلى إصدار قرار الاتهام، وتأكيد الإدانة، قبل أي تحقيق في الموضوع.
الإجابة على السؤال من؟ ليس مجالا للرأي أو الاجتهاد، إلاّ في الدوائر المعنية بالتحرّي والتحقيق، التي أرجو ألا تقع في محظور النزق والشيطنة، فتستلسم بدورها للهوى السياسي وفكرة الشيطنة السائدة هذه الأيام.
إذا لم يكن بمقدورنا أن نجيب عن السؤال من، إلا أنه بوسعنا أن نجتهد في الإجابة على السؤال لماذا؟
وأرجو ألا يفهم من ذلك الاجتهاد أي قدر من الموافقة أو التبرير لما حدث، كما قد يذهب بعض المتصيّدين، لأنّ ما أدعو إليه هو تفهّم خلفيات وملابسات الجريمة وعقلنة استنكارها لقطع الطريق على احتمال تكرارها.
إن العنف ينطلق في أغلب الأحوال في أجواء الانسداد التي تستصحب موت السياسة، الأمر الذي يفقد الراغبين في التغيير أو المحاسبة الأمل في تحقيق مرادهم بالوسائل السلمية والقانونية.
وفي الحالة المصرية فإننا نشهد حديثاً يومياً عن الإرهاب والحرب التي أعلنت السلطة عن خوضها ضده.
ونطالع كل يوم أخبار طائرات الأباتشي التي تدك معاقل الإرهابيين في سيناء،وقد حدثتنا جريدة الشروق أمس عن 11 هجوماً إرهابياً هناك.
كما نشرت جريدة الأهرام في نفس اليوم أنه تمت إزالة 50 بؤرة إرهابية على شواطئ قناة السويس بالتوازي مع ذلك، لا تفوتنا ملاحظة الحفاوة الإعلامية في مصر بجماعة بلاك بلوك وتلويحاتها المستمرة باستخدام العنف،والحفاوة الموازية باقتحام مقرات الإخوان وإشعال الحرائق فيها،وذلك كله في كفّة؛ والعنف المفرط الذي أدى إلى إغراق البلد مؤخرا في شلاّل من الدم في كفة أخرى.
وهو ما حدث جراء:فض الاعتصامات أمام:
مقر الحرس الجمهوري
وميدان رابعة العدوية
والنصب التذكاري
وميدان النهضة
إلى جانب ما حدث في مسجد الفتح ومحرقة المرحَّلين إلى سجن أبوزعبل،هذه الحلقات المفزعة من العنف التي خلّفت خمسة آلاف شهيد و20 ألف مصاب حسب بيانات تحالف الدفاع عن الشرعية "نصف ذلك العدد يظل مخيفا ومهولا".
حين يقترن ذلك بالمحاكمات العسكريّة، ودعوات الاجتثاث وإحراق المخالفين "بالجاز" التي ترددت في وسائل الإعلام المصرية،فضلا عن الهجوم الشرس على كل من دافع عن الديمقراطية داعما لحق الوطنية، فإننا نصبح بصدد خلفية تنثر بذورا شريرة لانطلاق العنف وإشاعته في الفضاء المصري.
لقد تحدّثت من قبل عن الوحش الذي استيقظ فينا في الآونة الأخيرة، فأشاع في أوساط المصريين مشاعر الكراهية والنفور والرغبة الجامحة في استئصال المعارضين وسحقهم، ولم تكن تلك الأصداء الخبيثة مقصورة على علاقة المصريين بعضهم البعض وإنما شملت أيضاً علاقة فئات منهم بالسلطة، التي تصرفت من جانبها كوحش لا رادع له من أعراف أو قانون.
حين يظل خطاب الشهرين الأخيرين يتحدث عن الإرهاب والعنف وقمع الآخر، ولا يظهر في عناوينه شيء عن التوافق والتسامح والتصالح، أو حتى الحوار الجاد، فإن ما نراه الآن يصبح بعض حصاد ما زرعناه، الأمر الذي يدعونا إلى الحذر من العنف الآتي، إذا ما بقيت الأوضاع الراهنة على حالها، وهو ما يدعونا لأن ندق الأجراس محذرين من استمرار إماتة السياسة والتعويل على الأمن في اجتياز المرحلة،
ويحثنا على أن نجأر ـ بصوت عالٍ ـ بالدعاء:
اللهم إنَّا لا نسألُك ردَّ القضاء، ولكنْ نسألك اللطفَ فيه.