هناك شعوب حية خرجت من دهاليز الخوف والرعب إلى ردهات الأمن والحرية، وباتت تنام تحرس حريتها وتكافح من أجل علوها وسموها، وهناك شعوب أخرى فى مرحلة الموت السريرى التى لا ترضى من الدنيا إلا المتاع والشهوات دون أن يكون لها بصمة فى واقع حياتها، وبالطبع لا تؤثر فى غيرها، وهى دائمًا ذيل تابع لا يملك من أمره شيئا على الإطلاق، وهناك الشعب الثالث، وهو يسعى بكل قوة نحو اللحاق بالأمم الحية، وأعتقد أن الشعب المصرى هو النوع بين الشعوب الميتة موتًا سريريًا وبين الشعوب الحية، ولم لا، ونحن شعب يضرب بجذوره فى أعماق التاريخ، منذ أن علم العالم الكتابة واخترع العجلة الحربية، ومنّ الله عليه بأنه أرض للرسالات والديانات. وصدق الله إذ يقول:-
"أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورًا يمشى به فى الناس كمن مثله فى الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون".
وهنا أرغب فى أن أقص بعض القصص هنا أعيشها مع المجتمع الأمريكى، وهو شعب يمكن أن تطلق عليه شعبًا حيًا إلى حد كبير.
فلنبدأ الحكاية إذًا، كنت أسير فى شوارع مدينة سان هوزيه (القديس يوسف)، فى ولاية كاليفورنيا، وإذا الشوارع نظيفة وجميلة تحفها الأشجار عن اليمين والشمال، وتجد الورود منسقة، كأن رسمها فنان بريشته، فهذا ورد أحمر يداعب ورد أصفر والطرق، ربما تخلو من المارة إلا رجل مع كلبه أو امرأة مع كلبها والسيارات من كل حدب وصوب، والأشجار مورفة الظلال تقف على قدميها، كأنها فى طابور عسكرى منتظم تقف انتباه للمارة والمشاة، لا تشذ شجرة عن الصف كأنهم بنيان مرصوص.
وهالنى ما رأيت، بعضًا من الشجرات حزينات ترى ذلك على وجوه ذات الأوراق الشاحبة الذابلة، كأنها تشتكى جمالها مقارنة بجاراتها، ووجدت على الشجرة ورقة من مجلس المدينة كأنه حكم محكمة أخرجه الحاجب لتوه، تعلن فيها عن قرار مجلس المدينة عن قطع تلك الشجرات المريضة، وذيل الحكم بالحق فى الاستئناف والاعتراض وحتى نقض الحكم مكتوبًا على الإعلان أنه يمكن الاعتراض على الحكم بإعدام الشجر، ويمكن لك أن تستأنف الحكم من أجل الإيقاف والاعتراض عليه أو حتى تعديله، وذلك خلال ١٤ يومًا من تاريخ الإعلان المكتوب على الشجر.
قلت لنفسى إن الناس تتمتع بالحرية، وفى نفس الوقت تحمل المسئولية، فهنا تتوازن الحياة بين بشر ينعمون بالطبيعة، وما من الله عليهم من نعم كثيرة، وكذلك يحفظون الأشجار والحيوانات، وهنا فى هذا الموقف تتجلى خلافة الإنسان لله فى أرضه يحترمون ما خلق الله من حيوان ونبات ويجعلون عينك لا ترى إلا كل جميل فتقول "سبحان الله".
ترى أن الله يمكن لبشر كل غرضهم فى الدنيا هو مسح كل أخضر، وإضافة مكعبات من الأسمنت لا حياة فيها ولا روح، ترانا نسرق أقواتنا ونسرق السولار لنبيعه فى الأسواق السوداء، ونضارب على الدولار حتى يغلى ثمنه وتزداد أسعار مأكولاتنا ومشروباتنا، ترانا وبعض تجارنا يرفعون الأسعار ليل نهار حتى يكتوى الفقير بنار الغلاء، ونحن نقف موقف المتفرج ولا نملك من أمرنا شيئًا.
تذكرت هنا حديث النبى المشهور عن ركاب السفينة فى الدور الأرضى الذين أرادوا أن يخرقوها حتى لا يذهبوا لإحضار الماء من أعلى، فإن هم تركوهم أغرقوا المركب وهلكوا جميعًا، ألا ترى أن كلاً من الطبقات المستغلة تراها دائمًا هى الطبقات التى دائمًا هى أصحاب القيم الأرضية لا علاقة لها بالسماء، تريد أن تكون دائمة مملوءة البطون والكروش من الحرام.
أما الموقف الآخر، فهو بعد أن انتهيت من صلاة الجمعة فى المسجد، وجدت لنفسى فرض عين علىّ أن أتغذى، فالأخ لابد أن يأكل أكثر حتى يجاهد أكثر، فذهبت لشراء بعض من الفاكهة من محل فواكه قريب من المسجد، فاشتريت الفاكهة ووقفت أمام الرجل لدفع الحساب، فقال لى لا يوجد عندنا شنط بلاستيك، فقلت له لم؟ قال إن مجلس مدينتنا منع تداول الشنط البلاستيك، لأنها تسبب كمًّا هائلاً من المخلفات، وهذا يجعلنا نوظف عمالة أكثر، وفى النهاية سندفع ضرائب أكثر.
– قال: يمكنك أن تشترى شنطة من الورق حتى تحافظ على نظافة مدينتنا.
– قلت: إذًا أدفع طالما أن هذا سيخفف عنى الضرائب، قلت له: بارك الله فى مجلس المدينة وكل اللى فى المدينة.
وأنا أتذكر أن آخر مرة أحضرنا شنطًا من الورق كانت تقريبًا من ٣٠ سنة، حينما كان أبى، رحمه الله، يشترى لنا اللحم مرة كل أسبوع – كل يوم خميس ملفوفة بأوراق الجرائد والكرتون.
قلت لنفسى وضميرى يعذبنى ويريد البائع أن يقهرنى من داخلى، لأنه لا يعلم ما أعلم ،كيف لو عرفت أن زبالتنا موضع كل قدم، وبجوار كل دار وما تركنا شجرا ولا حجرا إلا وشددنا عليه من القمامة، حتى أصبحت محاصرا بالزبالة فى كل مكان، محاصرين الأحياء والأموات، ولا أعلم ما ذنب الأموات أيضًا أن نلقى بزبالتنا عندهم.
وللعلم فهناك فرق كبير بين الحصار والاعتصام، فالاعتصام معناه أن الزبالة تحاصرنى، وأنا أستطيع أن أؤدى عملاً، أما الحصار فيغلب عليه أن يغلق عليك الأبواب والنوافذ، حتى ليأتيك الذباب من كل حدب وصوب، ومن حيث لا تحتسب، وقد امتلك الذباب هو الآخر قوة "ريد الثلاثية"، فأصبح مثل بعض ثوارنا يريد أن يحاصرنا، ولم لا، وهو الآخر مخلوق وكائن وله حق كل الحق أن يثور، طالبًا حقه فى الحياة بدون منغصات وإخوانه من الناموس يشد بعضهم بعضًا، ويشاركونه نفس الهدف ويريدون زيادة فى أكوام الزبالة، حتى يمصوا دماءنا ودماء أبنائنا.
قلت لنفسى: أين نحن؟ لا أقول من ديننا، لا، بل أقول أين نحن من آدميتنا، بل من إنسانيتنا، إننا فى حاجة إلى التأمل فى واقعنا حتى نرسم مستقبلنا.
أخيرا.. أقول إن حكومتنا عليها أن تعمل جاهدة على الضرب بيد من حديد على تلك الأيدى السارقة التى تسعى لإغراق المركب بمن فيه، وعلينا نحن أيضًا الشعب، نحن العمال، نحن الفلاحين، نحن الأطباء، نحن المهندسين، ونحن ….. أن نحارب ونجاهد ونرفع أصواتنا لنحيا حياة نظيفة يملؤها الحب والعطف والحنان.. وللحديث بقية عن شعبنا الحى بإذن الله