حين يطالع المرء خبر إخلاء سبيل الرئيس السابق فلا يعرف بالضبط ما إذا كان عليه أن يبكي أم يضحك.
إذ لا بد أن يصاب بصدمة حين يجد أن الرجل الذي ثارت عليه الجماهير حتى أسقطته تقرر إطلاق سراحه بعد عامين من الثورة.
في ذات الوقت فإن المرء لا يستطيع أن يمنع نفسه من الضحك حين يجد أن الرجل احتجز لأسباب تتعلق بذمته المالية ولاتهامه في قضايا أخرى رفعتها عليه إدارة الكسب غير المشروع، شأنه في ذلك شأن رجال الأعمال الذين استغلوا نفوذهم وتلاعبوا في الأراضي أو في البورصة (!).
الأمر يبدو غريبا ومحيرا.
لأننا لا نعرف ثورة في التاريخ أسقطت نظاما مستبدا وفاسدا، ثم قدمت رموزه إلى المحاكم الجنائية، لسبب جوهري هو أن الجرائم الكبرى التي يرتكبها الطغاة تظل سياسية بالدرجة الأولى،
أما الجرائم الجنائية التي يتورطون فيها تظل في المرتبة الثانية أو الثالثة من الأهمية.
ذلك حدث في عهد مبارك الذي نكل بمعارضيه فقدمهم للمحاكم العسكرية، واعتقل عشرات الآلاف منهم، وعذب، وقتل.
ولدى المنظمات الحقوقية قوائم بأعداد الذين تعرضوا للاختفاء القسري، وجرى محوهم من الوجود.
إلا أن الذين تعرضوا لتلك الجرائم كانوا فئات معينة لا يستطيع أحد أن يتجاهلها حقا، لكن ما تعرض له الشعب المصري كله من وهن وذل. وما أصاب الوطن من جراء فساد نظامه واستبداده واستسلامه للأمريكيين والإسرائيليين،
ذلك كله من الفداحة والجسامة بحيث يتعذر تجاهله أو اغتفاره.
فليس قليلا تزوير الانتخابات
وتدهور التعليم
وانهيار الخدمات الصحية
والعفن الذي شاع في المحليات.
والنهب الذي تعرضت له الثروة العقارية المصرية،
والخصخصة التي أسهمت في توحش القطاع الخاص.
ولا ينسى له انصياعه للسياسات الأمريكية
ولا تواطؤه مع الإسرائيليين ضد الفلسطينيين في غزة،
إلى غير ذلك من الجرائم التي أسهمت في تخريب مصر وتدميرها وإهانتها وتقزيم دورها في العالم العربي فضلا عن الساحة الدولية.
ولعل وصف القادة الإسرائيليين له بأنه كنز استراتيجي لبلادهم يكفي بحد ذاته في تسويد صفحته واغتياله سياسيا ومعنويا.
سجل ممارسات حسني مبارك طوال الثلاثين عاما يجعل منه مجرما سياسيا وليس مجرما جنائيا،
وهذا الوصف ليس لي ولكنى سمعته من المستشار طارق البشري أثناء مناقشة معه حول الموضوع.
وكانت خلاصة رأيه أنه حين قدمت القضية إلى محكمة الجنايات بأدلتها التي وفرتها الأجهزة الأمنية التي أقامها نظامه، وحين أمضى في السجن مدة حددها القانون للحبس، فلم يكن أمام القاضي سوى أن يخلي سبيله.
لذلك فإن المشكلة ليست فيما قرره القاضي.
ولكن المشكلة الحقيقية تكمن في أن القضية التي هي في جوهرها سياسية عرضت على قاض جنائي، وبالتالي فإنها من البداية وضعت في المسار الغلط.
علق المستشار البشرى على ذلك المشهد بقوله إن الطبقة السياسية المصرية، في الحكم وفي المعارضة، جَبُنت عن أن تتخذ قرارا سياسيا وثوريا تحاكم به الرئيس السابق عما اقترفه نظامه من جرائم على مدى العقود الثلاثة، فأحالوا الأمر إلى القضاء الذي لم يكن أمامه سوى الالتزام بالقانون، الأمر الذي انتهى بتقرير إخلاء سبيل الرجل،
في حين أن الوضع الطبيعي في حالة قيام الثورة كان يقضي بتشكيل محكمة خاصة تحاكم الرئيس السابق على كل جرائمه بحق الشعب السياسية وغير السياسية، لكي تحاسبه على ما ألحقه بالوطن والمواطنين من أضرار فادحة.
هذا الرأي دعا إليه المستشار البشري منذ بداية الثورة.
وكان المستشار زكريا عبدالعزيز قد دعا إلى شيء مماثل تقريبا في ميدان التحرير أثناء الثورة وبعدها،
إذ كان من رأيه أن تشكل لجنة برئاسة عضو في محكمة النقض لضمان سلامة الإجراءات، وتضم في عضويتها خبراء يمثلون قطاعات وفئات الشعب المصري من مثقفين ومهنيين وثوار لكي تتولى محاكمة الرئيس السابق، بحيث تثبت عليه جرائمه التي ارتكبها نظامه، حتى وإن لم تقض بتوقيع عقوبة معينة عليه، بحيث تحرر الإدانة وتسجلها في كتاب التاريخ.
الوجه الآخر المسكوت عليه في قرار إخلاء سبيل مبارك، أننا بعد هذه الخطوة وبعد تبرئة مساعدي حبيب العادلي وزير الداخلية السابق الذين قادوا إلى جواره عملية قمع الثوار وإجهاض محاولتهم،
بعد كل ذلك لم نعد نعرف من المسؤول عن قتل الثوار خلال الثمانية عشر يوما التي انتهت بسقوط مبارك.
وإذا تذكرنا أن هؤلاء يزيد عددهم على ألف شخص، فإننا نصبح بإزاء مشهد شديد العبثية. بمقتضاه تخلى الثورة سبيل الرجل الذي انتفضت ضده.
وفي الوقت نفسه تسكت على قتل أعوانه أكثر من ألف شهيد سقطوا خلالها.
الأمر الذي يعني أن الثورة برأت ساحة رأس النظام المستبد والفاسد، وحررت جريمة قتل شهدائها ضد مجهول.
صدق أو لا تصدق!