شبكة رصد الإخبارية
follow us in feedly

ظلال السياسة في ساحة القضاء – فهمي هويدي

ظلال السياسة في ساحة القضاء – فهمي هويدي
  لا يفاجئنا دفاع بعض القضاة عن مبارك ولا انخراطهم فى الخصومات والتحيزات السياسية لأن ثمة زواجا عرفيا تقليديا بين...

 

لا يفاجئنا دفاع بعض القضاة عن مبارك ولا انخراطهم فى الخصومات والتحيزات السياسية لأن ثمة زواجا عرفيا تقليديا بين القضاء والسياسة فى العديد من البلدان، مرفوض فى العلن فى حين تمارس طقوسه فى السر الذى يعرفه أهالى الطرفين!

 

(1)

 

قبل أيام قليلة رفض أحد القضاة فى القاهرة الجديدة دعوى رفعها اثنان من المحامين (شقيقان) طالبت بمحاكمة الرئيس السابق لعدم تنفيذه حكما قضائيا بالإفراج عنهما فى عام 2003. وفى حيثيات حكمه قام القاضى «بغسل» الرئيس السابق وتطوع لتبييض صفحته، حيث ذكر أن مسئولياته الجسام لإدارة شئون البلاد على كافة الأصعدة تجعل المحكمة لا تطمئن إلى توفر علمه بالحكم ومن ثم عدم تنفيذه، ثم استطرد قائلا: إنه لم يثبت للمحكمة قيام المتهم (الرئيس السابق) فى أى وقت سابق حال وجوده على قمة السلطة فى البلاد ان امتنع عن تنفيذ أى حكم صدر من أى محكمة. وهو تزيد من جانب القاضى لا مبرر ولا حجية له، ليس فقط لانه تعميم مغلوط، حيث لم يحدث ان نفذ فى عهده حكم باطلاق سراح أى معتقل أو متهم، وليس فقط لانه فى بعض القضايا أمر باحالتها إلى القضاء العسكرى أثناء نظرها لانه لم يعجبه أداء القضاء المدنى، وليس فقط لان حركة استقلال القضاء تشكلت فى عهده لمقاومة وصايته وتغوله، ولكن أيضا لانه كان يتحكم فى إصدار القوانين من المنبع من خلال مشاهير «الترزية» الذين يعرف الجميع أسماءهم ودورهم فى طبخ القوانين بمجلس الشعب السابق.

 

بهذا الحكم لم يكتف القاضى بتبرئة الرئيس السابق من تهمة معينة، وإنما تطوع بغير مبرر لتبرئته من أى مخالفة للقانون طوال ثلاثين سنة. ولا يفسر ذلك إلا بحسبانه من تأثيرات التسييس الذى لاحظناه فى أحكام قضائية عدة بعد ثورة 25 يناير. فحكم المحكمة الدستورية العليا بإبطال مجلس النواب كان سياسيا بامتياز، وكذلك حكم الجنايات الذى ألغت بمقتضاه قرار الكسب غير المشروع بالتحفظ على ممتلكات الفريق أحمد شفيق، كما رفضت الكشف عن سرية حساباته البنكية فى مصر، التى قيل إنها بلغت 500 مليون جنيه مما أثار الشكوك حول مصدرها. وكذلك الحكم الذى صدر بخصوص موقعة الجمل الذى استند على أنه لا يوجد دليل إثبات، مع أن أشرطة الفيديو المصورة تقدم ذلك الدليل. وصولا إلى قرارات النيابة بالإفراج المستمر عن البلطجية الذين يلقى القبض عليهم فى المظاهرات، واحتشاد وكلاء النيابة لحصار النائب العام وإجباره على الاستقالة من منصبه.

 

قبل أن أغادر هذه النقطة إلى ما بعدها ألفت الانتباه إلى خطأ التعميم فيما نحن بصدده. إذ فى مقابل القضاة الذين انخرطوا فى التحيز والاستقطاب، هناك آخرون لم يتورطوا فى تلك التحيزات، وإنما ظلوا قابضين على الجمر، فاستعلوا فوق الهوى وتعففوا عن المغريات وتعاملوا مع كل ما عرض عليهم بنزاهة وشرف.

 

(2)

 

تسييس القضاء ليس وليد حكم مبارك، ولكن له جذوره الممتدة إلى بداية ثورة يوليو عام ١٩٥٢، حين استعان ضباط الثورة ببعض كبار رجال القانون، وفى المقدمة منهم الدكتور عبدالرزاق السنهورى والمستشار سليمان حافظ بك اللذان أصبحا لاعبين مهمين فى الحياة السياسية ودافعا عن حظر عودة البرلمان، إلى ان اختلفا مع ضباط الثورة مما أدى إلى تعرض الدكتور السنهورى للضرب وهو رئيس مجلس الدولة فى عام 1954. وكانت تلك أولى رسائل تطويع القانون وإخضاعه للسياسة.

 

كان ذلك أمرا مفهوما آنذاك. إذ فى غياب الديمقراطية والحياة النيابية وبعد حل الأحزاب وإزاء رغبة الضباط الأحرار فى إحداث تغيير جذرى فى المجتمع بعد إلغاء الملكية، تمثل فى تحديد الملكية وتأميم الاقتصاد وتأسس القطاع العام وفرض وصاية السلطة على الصحف. لم يكن ممكنا أن يظل القضاء بعيدا عن سلطان الدولة الجديدة. خصوصا انه لم تعد هناك مؤسسة مستقلة بعيدة عن ذلك السلطان فى ذلك الوقت. وكانت المواجهة العنيفة بين الضباط الأحرار وبين مجلس الدولة فى عامى 1954 و1955 رمزا لتلك الحالة. وكانت مذبحة القضاء فى عام 1969 ذروة لها.

 

رحلة القضاء مع ثورة يوليو وما بعدها رصدها المستشار طارق البشرى فى كتابه «القضاء المصرى بين الاستقلال والاحتواء»، وتتبعها وفصل فيها الدكتور عمرو الشلقانى فى مؤلفه الذى صدر مؤخرا تحت عنوان «ازدهار وانهيار النخبة القانونية المصرية» فى الفترة ما بين عامى 1805 و2005. وفى توصيفه لوضع القضاء فى المرحلة الناصرية ذكر المستشار البشرى أن الثورة آنذاك تعاملت معه بأسلوب «الإحاطة والاقتطاع دون أسلوب السيطرة المباشرة والإلحاق الصريح». بما يعنى انها أحاطت به والتفت حوله دون أن تخترقه وتتغول فيه. ولذلك فانها أبقت على استقلالية القضاء والنظام القضائى، إلا أنها من خلال سيطرتها على سلطة التشريع استصدرت تشريعات قيدت من مجال التقاضى، فمنعته فيما خص الطلبة كى تتعامل مع مظاهراتهم المضادة بحرية، كما منعت التقاضى فى مسائل الجيش. من ناحية أخرى فانها أنشأت محاكم خاصة لا سلطان عليها للقضاء العادى، لمحاكمة الخصوم السياسيين فأقامت فى السنوات الأولى ما سمى بمحكمة الغدر ثم محكمة الثورة، ثم محكمة الشعب، كذلك عمدت إلى إنشاء محكمة عسكرية لملاحقة ومعاقبة الخصوم والمناوئين. وتمثل أقصى تدخل للسلطة السياسية فى القضاء فى إنشاء فرع «لتنظيم طليعى» بين القضاة، ظل سريا بطبيعة الحال.

 

اختلف الأمر فى المرحلتين التاليتين، فى عهدى السادات ومبارك. لان ما كان مفهوما وبدا سياقا طبيعيا فى ظل التغييب الصريح للديمقراطية وسيطرة الحزب الواحد فى المرحلة الناصرية، بدا نشازا وغير مستساغ فى ظل الانتقال إلى الانفتاح والليبرالية الشكلية والتعددية السياسية. وكما حدث الاحتيال فى تلك الفترة على الديمقراطية من خلال تزوير الانتخابات واخضاع البرلمان (مجلس الشعب) لنفوذ السلطة التنفيذية، فقد جرى الاحتيال على استقلال القضاء من خلال وسيلتين هما: الغواية والاختراق. وتمثلت الغواية فى الإغداق على الموالين والطيِّعين بالميزات والمكافآت، كما تمثل الاختراق فى تعيين عدد كبير من ضباط الشرطة فى سلك القضاء، وهم الذين يحصلون على ليسانس الحقوق أيضا عند تخرجهم من كلياتهم. وقد أسهم فى انجاح هذه العملية بدرجة كبيرة طول المدة التى قضاها الرئيس السابق فى السلطة. ذلك انه استطاع خلال حكمه الذى استمر ثلاثين سنة ــ كما حدث فى قطاعات أخرى ــ أن يعيد تفكيك وإعادة تركيب الهيئة القضائية لكى تناسب سياساته، فضلا عن انه توسع فى القضاء العسكرى حتى جعله موازيا تقريبا للقضاء المدنى. وبذلك فانه شدد قبضته على سلطة التشريع من خلال استتباعه لمجلس الشعب وسلطة القضاء من خلال أساليب الغواية والاختراق التى اتبعها. ورغم ان بعض القضاء الشرفاء افلتوا من تلك القبضة ورفضوا الاستتباع والغواية، إلا ان هؤلاء ظلوا استثناء على القاعدة وتحولوا بمضى الوقت إلى قلة معرضة للضغط المستمر فضلا عن الانقراض. وهذه القلة هى التى أعلنت تمردها ومقاومتها فيما عرف بحركة استقلال القضاء التى ظهرت فى عام 2005.

 

(3)

 

فى مستهل كتابه أشار الدكتور عمرو الشلقانى إلى ما ذكره شكسبير فى مسرحية «هنرى السادس» التى تناولت ثورة الشعب الإنجليزى سنة 1450، ونقل عن أحد الثوار المندفعين قوله: «أول ما يجب أن نفعله ان نقوم بقتل كل المحامين». وقال ان بعض رجال القانون ذهبوا فى تفسير المقولة إلى انها تعنى ان أى إسقاط جاد للنظام لابد أن يبدأ بالقضاء على رجال المشورة. الذين باركوا ظلمه قبل الثورة وزينوا له الطغيان والجور على حقوق الشعب، لكن آخرين من القانونيين رأوا فى النص معنى معاكسا تماما حيث اشتموا فيه تحذيرا من أن تؤدى الثورة إلى ميلاد حكم استبدادى جديد بالتخلص من رجال القانون. لكن أكثر ما يهمنا فى الموضوع أنه فى ظل التحولات الثورية أو الانقلابية فان تصفية الحساب مع النظام الاستبدادى القديم لابد أن تطول أدواته، والقضاء من أهمها.

 

التجربة التركية تقرب المسألة إلى الأذهان بصورة أوضح. ذلك ان السلطة العسكرية مارست الحكم طوال أكثر من نصف قرن معتمدة على ثلاث ركائز أساسية هى الجيش والقضاء والإعلام ــ وإذا كان الجيش قد دأب على تغيير الحكومات من خلال ثلاثة انقلابات ورابع كان انقلابا أبيض، فان القضاء ظل أداته فى توفير الغطاء القانونى لممارساته المختلفة، خصوصا حساباته مع القوى السياسية بشكل عام والقوى الإسلامية بوجه أخص. وما نسميه نحن بترزية القوانين ظلوا يؤدون ذلك الدور طول الوقت. حتى يذكر انه خلال أربعين عاما قامت المحكمة الدستورية بحل وحظر 40 حزبا سياسيا شملها غضب العسكر، تم خلالها حظر حزب الحركة الإسلامية ثلاث مرات بحجة مناهضة العلمانية. ومما يذكره مؤلف كتاب الحركات الإسلامية فى تركيا المعاصرة، الدكتور طارق عبدالجليل، ان المحكمة الدستورية حظرت حزب الرفاة الإسلامى فى عام 1997 ومنعت قياداته من مزاولة النشاط السياسى بناء على تهم واهية ومضحكة. منها على سبيل المثال: ان رئيس الحزب نجم الدين أربكان استضاف فى رئاسة الحكومة (كان رئيسا للوزراء) على مائدة الإفطار فى شهر رمضان زعماء الطرق الدينية المحظورة ــ وانه فى عام 1996 ذهب لافتتاح جامعة «سلجوق» فى قونيه، وقال كلمة استهلها بقوله: بسم الله الرحمن الرحيم نفتتح العام الدراسى الجديد!ــ أما نائبه شركت فازان الذى كان وزيرا للعدل، فقد عوقب لأنه طالب فى عام 1996 بتدريس العلوم الدينية والأخلاق فى السجون ــ ثالثهم شوقى بلماظ الذى كان محافظا لإقليم «ريزة». كانت تهمته إعلانه أنه كل من لا يستمد صلاحياته من رسول الله سوف يحاسب فى الآخرة… وهكذا.

 

معاندة القضاء لحزب العدالة والتنمية ظلت مستمرة حتى بعد توليه السلطة فى عام 2002. ففى عام 2008 طلب النائب العام حل الحزب ومنع 71 من قياداته من العمل السياسى لمدة 5 سنوات، وفى المقدمة منهم عبدالله جول رئيس الجمهورية والطيب أردوغان رئيس الوزراء، وكانت التهمة الأساسية هى مناهضة العلمانية. وتمثلت تلك المناهضة آنذاك فى موافقة أغلبية أعضاء البرلمان على رفع الحظر عن دخول المحجبات إلى الجامعات. وكان الحزب مهددا بالحل فعلا بعدما قبلت المحكمة الدستورية نظر الدعوى، إلا أن القرار لم يحظ بالأغلبية المطلوبة، فأفلت من الكمين الذى نصب له.

 

(4)

 

لقد استطاع أردوغان ان يقاوم ضغوط المؤسسة القضائية الموالية للعسكر بعد ان أمضى ست سنوات على الأقل وهو رئيس للحكومة، لذلك ينبغى ألا نستبعد اصطفاف بعض تلك الرموز فى المعسكر المناهض للإخوان والرافض لهم من جانب آخرين. وأحد الفروق المهمة بين الحالتين التركية والمصرية ان الحزب الحاكم فى تركيا يحظى بتأييد شعبى كبير وأغلبية برلمانية تزايدت بمضى الوقت، فى حين ان الأمر ليس كذلك فى مصر. ثم ان مشروع أردوغان للنهوض بالمجتمع التركى حقق نتائج أسكتت معارضيه، فضلا عن انه يحظى بالتفاف وتأييد أغلبية القوى الفاعلة فى المجتمع، وذلك أيضا ليس متوفرا فى مصر.

 

إذا نظرنا إلى المسألة فى عمقها فسوف نرى بوضوح أن استعادة القضاء لحيدته وعدالته ستحتاج إلى بعض الوقت، لحين تفريخ جيل من أعضاء الهيئة القضائية محصن ضد الغواية ورافض للاستتباع ومؤمن حقا بسيادة القانون ودولة المؤسسات. وهنا تلعب البيئة السياسية والديمقراطية دورا أساسيا فى تنقية الأجواء التى تؤدى إلى تفريخ ذلك الجيل، وإحداث التطهير الحقيقى ليس للقضاء فحسب، ولكن أيضا فى مختلف المهن التى تأصلت تقاليدها واهتزت قيمها فى ظل سنوات الاستبداد والفساد. ذلك ان الديمقراطية الحقيقية كفيلة باستخراج أفضل ما فى الناس، فى القضاء وفى غيره. وقد تأكد لدينا أن العكس صحيح، لان الاستبداد قام بدوره فى استخراج أسوأ ما فيهم، يشهد بذلك ما نراه حولنا منذ قامت الثورة.



تنفيذ و استضافة وتطوير ميكس ميديا لحلول الويب تنفيذ شركة ميكس ميديا للخدمات الإعلامية 2023