هذه الكلمات التي أكتبها هي خلاصة فترة قضيتها باحثا ومتأملا في واقعنا الآن في مصر وغيرها من بلاد العرب والإسلام، ومن ثم فهي تكشف لنا الواقع، وما يجب أن نكون عليه من فقه التدين للخروج من أزمتنا.. فلتصبر عزيزي القارئ على قراءتها وتأملها، سائلا الله أن يوفقني لعرض الفكرة واضحة، ووصولها إليك بيسر وسهولة..
نقرر أولا أن الإيمان هو أساس نهضة المسلمين، وشرطها اللازم لعودة الدورة الحضارية، وذلك إذا استطاع المسلمون امتلاك المقومات واستعادة الفاعلية.
ولا شك أن واقعنا الحالي مر على كافة المستويات، وأسباب هذه الواقع معروفة وواضحة، وليس من الحكمة في شيء أن نلقي بالتبعة على العوامل الخارجية لنعفي أنفسنا من مسئولية التقصير ونتستر على أخطائنا في تعاملنا مع ديننا، لأننا نتحمل جزءا كبيرا من الحالة التي وصلنا إليها، بسبب خمود الفاعلية وانطفاء شعلة الإيمان وضلال منهج الفهم وعدم القدرة على التعامل مع القيم الثابتة والإفادة من الميراث الثقافي والتجربة الحضارية التاريخية، لتنزيل الإسلام على واقع الناس، وإيجاد الأوعية الشرعية لحركة المجتمع من خلال فقه التدين.
ومهما كان الإسلام عظيما فلن يستطيع أن يؤدي رسالته ويحقق مقصده إذا لم يتقدم به أهله لمعالجة المشكلات البشرية الواقعية، وتقديم الحل الأفضل الذي يغري به الناس وينقذ حياتهم.
فإلى أي مدى يحسن المسلمون اليوم التعامل مع الإسلام بمصدريه (القرآن والسنة)؟ وإلى أي مدى يأخذون بالاعتبار إدراك الواقع المتغير والمعقد بآلات فهم علمية ليكونوا قادرين على بسط الإسلام على حياة الناس، وتقويم سلوكهم بشرع الله؟ تلك هي المعادلة المطلوبة والمفقودة في الوقت نفسه عند مسلمي اليوم، وبدونها لا تتحقق القيادة للناس والشهادة عليهم التي هي من وظائف هذه الأمة وخصائصها (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس).
ومن ثم تبدو حاجتنا الشديدة في هذا الوقت إلى فقه التدين، ولن يتحقق لنا فقه التدين إلا بأمرين: أولهما فهم الدين من أجل أن يكون المفهوم واقعا في السلوك يوجهه ويهديه ، والفهم الصحيح للدين هو المرحلة الأساسية في التدين باعتبار أنه يتوقف على الفهم تمثل حقيقة الدين التي ستصبح عقيدة وسلوكا، فالخلل الذي يطرأ في الفهم يفضي مباشرة إلى خلل في التدين، وإذا نظرنا إلى الواقع الحالي لنتأمل كيف يفهم بعضنا الدين وجدنا عجبا:
فمن الناس من يفهم الدين شكلا بلا مضمون، قولا بلا عمل، ومن الناس من لا يحمل من الدين إلا اسمه حيث كتب في بطاقة هويته أنه مسلم وهو في حقيقته أبعد ما يكون عن الإسلام، ولا تستطيع أن تفرق بينه وبين غير المسلم في شيء، فهو يتكلم بكلام غير المسلمين، ويفعل أفعالهم، وينهج في حياته نهجهم، ومن الناس من حصر الإسلام في أداء العبادات فقط ولا علاقة للدين عنده بالحياة وتكاليفها.
لقد صار الإسلام أشكالا وأصنافا وألوانا، ولعلي أتذكر هنا ما ذكره الشيخ عبد الحميد كشك رحمة الله عليه يوما متهكما على تغير مفهوم الأمانة عند الناس قائلا: أصبحت الأمانة في زماننا أسماء فقط؛ أمين عهدة، وأمين مخازن، وأمين الجلسة، وأمين المجلس، وأمين السر، وأمين الهنيدي… الخ وهكذا صار الإسلام اليوم؛ إسلام الأزهر، وإسلام المتصوفين، وإسلام الجماعات الإسلامية… الخ بل وصل الأمر أحيانا إلى تسمية الإسلام بأسماء أشخاص يدعون إلى نموذج معين من الإسلام، فيقول بعضهم إسلام عمرو خالد وإسلام خالد الجندى وإسلام فلان وإسلام علان…الخ
وفقه التدين قوامه الأساسي أن نفهم الإسلام فهما شاملا كاملا غير منقوص ينتظم كل شئون الدنيا والآخرة، فهو دولة ووطن أو حكومة وأمة، وهو خلق وقوة أو رحمة وعدالة، وهو ثقافة وقانون أو علم وقضاء، وهو مادة وثروة أو كسب وغنى، وهو جهاد ودعوة أو جيش وفكرة، كما هو عقيدة صادقة وعبادة صحيحة، سواء بسواء.
ولما كان الغرب يعلم أن الفهم الصحيح للدين هو أساس التدين الذي هو أساس نهضة المسلمين، فقد أصرّت قوى التغريب والتخريب على تشويه فهم المسلمين لدينهم، ولقد بدأت الفكرة يوم ابتعثت هولندا أحد علمائها (هيروجرونج)، وقد ادعى الإسلام، إلى مكة المكرمة عام 1884م. كانت هولندا تستعمر إندونيسيا.. فبعثت هيروجرونج ليدرس ويتعمق في فهم الإسلام.. وعندما عاد عيّنته الإدارة الاستعمارية مستشارا مدنيا للحاكم العسكري في إندونيسيا.. وهو الذي أشرف مباشرة على وضع وتنفيذ البرنامج التعليمي الذي عُرف باسمه.
تتلخص خطته في تقسيم الإسلام إلى عام وخاص أو إلى دين وسياسة. ونصح الإدارة الاستعمارية بالتساهل مع الطبقة الدينية التي لا تهتم بالحياة العامة أو بالقضايا السياسية.. أما الطبقة الأخرى التي تهتم بشئون الحياة فأمامها الأحزاب والفكر الليبرالي العلماني.. وأكبر المحظورات حسب هذه الخطة هو المزج بين العام والخاص أو بين الدين والسياسة..
وهكذا شاعت مقولة لا سياسة في الدين.. ولا دين في السياسة.. وانتقلت الفكرة من إندونيسيا الخاضعة للاستعمار الهولندي إلى جميع البلدان الإسلامية الأخرى، وقد كانت خاضعة في معظمها للقوى الاستعمارية، وهكذا ضربوا العالم الإسلامي في مقتل.
والجانب الثاني في فقه التدين هو تنزيل الدين في واقع الحياة، وهذه هي الثمرة المبتغاة من أصل الدين ولا شك أن هذه مرحلة صعبة وتحتاج إلى جهد كبير لأنها تحتاج إلى فقه منجي يناسب طبيعة المرحلة ومدى استعداد الناس لتقبل الأمر.
إن العودة إلى الالتزام بالإسلام وتكييف سلوك الناس بنهجه لا يمكن أن يتم دفعة واحدة، وخاصة وأن عملية الانسلاخ استغرقت زمنا طويلا فلا بد من اعتماد سنة التدرج، والتحقق برؤية عصرية للواقع وفهمه من خلال وسائل علمية، ثم تحديد الموقع بدقة والقدر الذي يجب تنزيله في هذه المرحلة، ومن ثم يكون تنزيله في هذه المرحلة مقدمة وتمهيدا لتنزيل القدر التالي في مرحلة أخرى وهكذا.
ولابد أن يكون معلوما وواضحا أن المقصود بالتدرج هنا هو التدرج في التطبيق والتنزيل على الواقع وليس التدرج في التشريع؛ لأن التشريع قد اكتمل.
إن التدرج في التطبيق أمر من صميم الدين، فترك العزيمة إلى الرخصة في حالات قد تؤدي العزيمة فيها إلى تفويت مقصد الدين وإيقاع المكلف في الحرج حكم شرعي استقر عليه علماء أصول الفقه، لأن ذلك هو الذي يلائم المكلف في حالته، فالمشقة تجلب التيسير.
وليس من فقه التدين مطالبة الملكف بالحد الأقصى للتكليف وهو لا يطيق إلا الحد الأدنى، والمدى المطروح للتدين يتلاءم بحسب الواقع.
ومن عدم فقه التدين العبث في التعامل مع الأحكام الشرعية وذلك بتنزيلها على غير محالها فيلحق العنت بالفرد والأمة على حد سواء، فمن المعلوم أن من أحكام التكليف ما يقع ضمن استطاعة الفرد وفي حدود مسئوليته، ومنها ما هو مرتبط بوجود الحكومة المسلمة الكاملة (حاكم مسلم وحكومة مسلم وقضاء مسلم وجيش مسلم يحمى الدولة المسلمة ويدافع عن كيانها).
وهكذا نرى أن التكليف يتحدد أصلا ضمن ما يقع تحت مقدور المكلف، ومقدور المكلف يتطلب منه القيام بالمسئولية المنوطة به كفرد، ومن تمام هذه المسئولية الفردية العمل على وجود الحاكم المسلم الذي يناط به إنفاذ الأحكام المرتبطة به، وهذه المسئولية تضيء لنا الطريق لنفهم وندرك حقيقة ما يدبر لمصر في هذه الأيام، فقد خطت مصر خطوة عظيمة نحو قيادة الأمة المسلمة إلى الإسلام الصحيح قولا وعملا وفعلا، وتمثلت هذه الخطوة في ثورة رائعة أزاحت رمز الظلم والقهر، وانتخب الشعب المصري رئيسا مسلما واعيا مؤمنا بالإسلام منهج حياة، وهذا أمر يؤرق أعداء الإسلام في كل مكان، ولذلك فهم يعملون ليل نهار على تشويه الصورة المصرية وتشويه رئيس مصر، فيجيشون أذنابهم وأتباعهم وضعاف النفوس والعقول من الذين كانوا ينتفعون من دولة الظلم ليشيعوا الفوضى في البلاد، فلا يستقيم الأمر للرئيس، ويكره الناس الإسلام والمدافعين عنه. ومن ثم فحماية الرئيس والدفاع عنه ومعاونته في أداء مهمته والدعاء له بالتوفيق والسداد من أهم واجبات الوقت لكل مسلم صادق غيور على دينه.