قال الكاتب البريطاني «ديفيد هيرست» إن دعم بريطانيا للصهيونية تسبب في 76 عاما من الصراع، وحان الوقت لأن تتوقف هذه الهمجية.
وفي ما يلي نص المقال كاملا:
في عالمهم، فقط الضغط المستمر على حماس سوف يجبرها على إطلاق سراح الأسرى، ولذلك لا بدّ من تزويد الاحتلال بالأسلحة حتى تستطيع بذلك. مازالت قوات الاحتلال الإسرائيلي تنفذ عمليات دقيقة شرقي رفح، وبذلك فهي لا تتجاوز الخطر الأحمر الذي وضعه بايدن لها بشأن استخدام القنابل الثقيلة، التي تزود بها الولايات المتحدة الاحتلال.
عضو مجلس الشيوخ الأمريكي ليندسي جراهام فظيع، ولكن لعله كان أفصحهم لسانا.
تماما كما أن الولايات المتحدة أنهت “بحق” الحرب العالمية الثانية من خلال إسقاط القنابل النووية على هيروشيما وناغازاكي، ينبغي أن تمنح الاحتلال القنابل التي تحتاجها من أجل إنهاء هذه الحرب، كما قال جراهام. هل يكون ذلك من خلال إلقاء واحد من رؤوسها النووية المئتين على غزة؟
في عالم الحقيقة، انسحبت الولايات المتحدة من صفقة لوقف إطلاق النار بوساطة مصرية بعد أن وقعت عليها حماس، وهي الصفقة التي كانت برعاية مدير السي آي إيه بيل بيرنز. لم يلبث رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو أن تحدى بايدن جاسّا نبضه، من خلال شن أكبر هجوم على كل أجزاء غزة منذ بداية الحرب، ومن خلال وقف جميع المساعدات فيما عدا كميات رمزية.
في عالم الحقيقة، تقوم قوات الاحتلال بحملات قصف سجادي على شرق رفح وعلى وسط غزة وشمالها. وتتعرض لقصف مهول بشكل آني مناطق جباليا في الشمال والزيتون في مدينة غزة والنصيرات في الوسط ورفح في الجنوب.
تم تماما إغلاق رفح، نقطة العبور الرئيسية للمساعدات، ولا يسمح سوى لجزء ضئيل من المساعدات التي يحتاجها الناس يوميا بالعبور إلى القطاع.
منذ الاستيلاء على الجانب الفلسطيني من معبر رفح، سمح الاحتلال فقط لست شاحنات مساعدات بالمرور من خلال معبرها في كرم أبو سالم، بالإضافة إلى 157 ألف لتر من الوقود، رغم أن الحد الأدنى الذي تحتاجه غزة هو 500 شاحنة و 300 ألف لتر من الوقود يوميا.
تقول وكالة غوث اللاجئين (أونروا)؛ إن 450 ألف إنسان دفع بهم نحو الشمال، فهم متوجهون إلى البلدات المدمرة في خان يونس ودير البلح، بينما يتجه عشرات الآلاف من الناس في مدينة غزة نحو الجنوب، فرارا مما وصفه برنامج الغذاء العالمي بالمجاعة التامة.
في العالم الحقيقي، قد يكون نصف سكان غزة على وشك التجمع في وسط القطاع، حيث لا طعام ولا مياه نقية تكفي لسد احتياجات مثل هذا السيل العارم من اللاجئين.
لا يوجد مكان آمن يمكن أن يلوذ به المرء، وهذا ما حرص الاحتلال عليه من خلال قصف الملاذات الآمنة.
احتيال بايدن
فماذا كان رد فعل بايدن على التجاهل الذي حظي به من حليفه الرئيس؟
صدر عنه ردان، أما الأول، فهو القول بأن الهجوم على رفح لم يقع، ولذلك لم يتم تخطي أي خطوط حُمْر. وأما الثاني، فهو التأكيد أن حماس ذاتها هي التي تتحمل المسؤولية عن هذا الهجوم، فيما لو حصل فعليّا. وذلك ما عبر عنه سفير الولايات المتحدة لدى الاحتلال، جاك لو، قائلا: “شحنة واحدة فقط هي التي تم تأخيرها، فالاحتلال لم يتجاوز الخط الأحمر في رفح”.
وافق بايدن الاحتلال فيما ذهب إليه، إذ قال في نشاط لجمع التبرعات نظم في سياتيل يوم السبت: “قالت إسرائيل إن الأمر يعود إلى حماس. لو رغبوا في ذلك، فإننا يمكن أن ننهي الأمر غدا. ويمكن لوقف إطلاق النار أن يبدأ غدا”.
كلا العذرين أقبح من ذنب. لو تمكنت حماس من “إنهاء كل شيء الآن”، لأمكن التوصل إلى وقف إطلاق نار دائم قبل شهور، ولحصل ذلك بكل تأكيد بعد أول تبادل للأسرى والسجناء.
إن الذي أدى إلى انهيار آخر جولة من المفاوضات، هو رفض الاحتلال “إنهاء كل شيء الآن” قبل استئصال حماس. فقد وقّعت حماس على صفقة لوقف إطلاق النار من شأنها ضمان التوصل إلى وقف دائم للقتال، إلا أن الاحتلال رفض ذلك، وها هي الولايات المتحدة الآن تساندها فيما ذهبت إليه.
لا ريب في أن هذه الحرب لا تتعلق باستعادة الأسرى وهم أحياء. كلما استمرت الحرب، بقي عدد أقل من الأسرى البالغ عددهم 128 أسيرا على قيد الحياة.
وكما تعرف عائلات الأسرى جيدا، أن قصف الاحتلال هو الذي يقتلهم وليس حماس.
بريطانيا منحازة بالكامل إلى الاحتلال الإسرائيلي
كاميرون أسوأ بكثير من بايدن، كلما أمكنه ذلك؛ ففي سلسلة من المقابلات، قال؛ إن منع تصدير السلاح إلى الاحتلال سوف يعزز حماس، بل ووصل به الأمر أن أنّب الـ«بي بي سي»؛ لأنها لم تصفها بالحركة الإرهابية.ورفض استئناف تمويل بريطانيا لوكالة غوث اللاجئين «الأونروا»، وذلك على الرغم من أن تقريرا مستقلا للأمم المتحدة أعدته لجنة يترأسها وزير خارجية فرنسا السابق، خلص إلى عدم وجود دليل يدعم مزاعم الاحتلال بأن عاملين في وكالة غوث اللاجئين كانوا أعضاء في جماعة «إرهابية». علق اللورد كاميرون على ذلك قائلاً: “ما نطالب به نحن أكثر من ذلك”.
بل بلغ إلحاح بريطانيا في هذا الأمر، أن سارعت إلى وقف التمويل دون إجراء أي تحقيق في المزاعم. بل اعتمدت في إجرائها، بحسب مصادر تحدثت مع موقع ميدل إيست آي، على مجرد “معلومات وردت في وسائل الإعلام”، لا أكثر.
حثّ أكثر من خمسين من أعضاء البرلمان وأعضاء مجلس اللوردات كاميرون على استئناف التمويل، قائلين بأن من شأن ذلك أن يبعث برسالة قوية من التضامن مع أولئك الذين تضرروا بسبب الأزمة في غزة، ويعيد تأكيد الريادة البريطانية في الجهود الإنسانية العالمية.
إلا أن كل ذلك تم تجاهله، وغدت بريطانيا في ظل كاميرون منحازة بالكامل إلى جانب أكثر الحكومات يمينية في تاريخ الاحتلال.
مثل الاحتلال الإسرائيلي، بريطانيا عازمة على تدمير وكالة غوث اللاجئين، ومن ثم تدمير الحماية الدولية الوحيدة المتاحة للاجئين الفلسطينيين حول العالم.
يبدو أن كاميرون يتفق مع ما ذهب إليه ستالين، من أنه: “بلا إنسان لا يوجد مشكلة”، إلا أن شعاره هذه المرة هو: “بلا لاجئين لا يوجد مشكلة”.
مثل الاحتلال الإسرائيلي، تريد بريطانيا لهذه الحرب أن تنتهي فقط بتدمير حماس. وبما أن هدف هذه الحرب غير قابل للتحقيق، فإن بريطانيا تدعم فعليّا إعادة احتلال غزة بشكل دائم.
مثل نتنياهو، يتجاهل كاميرون موت الأسير «الإسرائيلي» البريطاني نداف بوبلويل، الذي توفي متأثرا بجراح أصيب بها في قصف الاحتلال. كما التزم كاميرون الصمت إزاء إغلاق رفح. ثم حينما نطق أخيرا، قال في حديث مع البي بي سي في نهاية الأسبوع؛ إن بريطانيا “لا تدعم عملية كبيرة في رفح دون خطة ما”.
كما أنه يلتزم الصمت إزاء حركة ما يقرب من نصف مليون لاجئ نحو الشمال من رفح، إلى منطقة لا تتوفر فيها إمكانية توفير الغذاء والمياه لهم.
ترفض بريطانيا دعم اتخاذ أي إجراء قانوني من خلال المحكمة الجنائية الدولية، أو من خلال محكمة العدل الدولية، متسترة وراء ورقة توت، مفادها أن ذلك من شأنه أن يعيق المفاوضات التي انسحب منها الاحتلال على أية حال.
وللمرة الثانية في هذه الحرب، يوفر بايدن وكاميرون ضوءا أخضر لنتنياهو حتى يستمر في هذه الحرب كما بدأها، وهي حرب من الواضح ودون أدنى شك أنها تستهدف الناس، كل الناس، في غزة.
ولكن لا يعني ذلك أن الحملة على رفح دون تداعيات على الإقليم.
جسر بعيد المنال
ما إن انبلج الفجر حتى رُفع علم الاحتلال يرفرف فوق الجانب الفلسطيني من رفح، فكان ذلك بمنزلة صفعة تلقاها المصريون على وجوههم.
في هذه الأثناء، استمرت المصادر الأمنية في الاحتلال بتغذية وسائل الإعلام العبرية بمعلومات حول التعاون المصري من تحت الطاولة، بما في ذلك الزعم بأن القاهرة سوف تعمل مع الاحتلال للقضاء على الأنفاق الممتدة تحت الحدود، وبأن القاهرة وافقت على خطة تقضي بتسليم إدارة رفح لشركة أمريكية خاصة.
فما كان من وسائل الإعلام الرسمية في مصر، إلا أن تحولت إلى الجانب الآخر.
أشاد مقدم البرامج الإخبارية الشهير عمرو أديب بما فعلته كتائب القسام. وأعلن أديب يوم الأحد أن الاحتلال خسر مصر، حين أعلنت مصر عن نيتها الانضمام إلى جنوب أفريقيا في قضية الإبادة الجماعية المرفوعة ضد الاحتلال الإسرائيلي لدى محكمة العدل الدولية.
ينبغي أن يسأل الاحتلال والولايات المتحدة نفسيهما: لماذا قرر الآن جار مهم، لم يزل متوافقا معهما طوال سبعة شهور من الحرب على غزة، تبديل موقفه. بنظرة إلى الخلف، لربما كان هناك تفاهم ضمني بين الاحتلال ومصر على احتلال معبر رفح.
ففي يناير الماضي، نقلت القناة 13 العبرية عن مسؤولين لم تسمهم، أن الاحتلال أبلغ مصر عن نيته إرسال قوات إلى رفح وإلى ممر فيلادلفيا، بهدف تخليص المنطقة من مقاتلي المقاومة الفلسطينية.
وأضافت القناة 13، أن القاهرة عبرت عن قلقها إزاء الخطة، محذرة بأن مثل هذا الفعل قد يفضي إلى خروج جماعي فلسطيني باتجاه سيناء. إلا أن المصادر العبرية قالت؛ إن ذلك سيكون بمنزلة خطوة مؤقتة، وأن “الاحتلال لن يبقى هناك بعد انتهاء العملية، التي لم يكن قد اتخذ بشأنها قرار نهائي بعد”.
من الواضح أن الاحتلال الإسرائيلي حنث بالوعود التي قطعها للقاهرة، متعهدا بأن إعادة الاحتلال سوف تكون مؤقتة، وأن الخطة مضت إلى أبعد مما يمكن لمصر أن تتقبله.
قامت قوات الاحتلال حتى الآن بإعادة احتلال ثلاثة كيلومترات من الكيلومترات الستة عشر في المنطقة المحايدة التي تسمى ممر فيلادلفيا. ولكن ما الذي سوف يحدث لمصر فيما لو احتل الاحتلال الجبهة بأسرها؟
لسوف تتحول المصلحة المشتركة في التخلص من حماس في غزة إلى تضارب في المصالح، وهو ما سوف يضر بالدولة المصرية.
فيما لو وقع الممر بأسره تحت الاحتلال، سوف تفقد مصر كل سيطرة لها على التواصل مع غزة، ناهيك عن الموارد المالية الكبيرة التي سوف تفقدها. بعد أن فقدت كل مصالحها في جارتيها الكبيرتين؛ ليبيا والسودان، ها هي القاهرة على وشك أن تخسر آخر ورقة بيدها في الساحة الإقليمية.
لا يمكن للدولة المصرية، تحت أي قيادة، أن تتقبل مثل هذا الأمر. إنها الدولة، وليس عبد الفتاح السيسي نفسه، هي التي أغلقت الحدود لتحول دون خروج جماعي للفلسطينيين من غزة إلى سيناء.
في واقع الأمر، لقد غدت إعادة احتلال رفح، جسرا بعيد المنال بالنسبة للمصريين.
وليس فقط بالنسبة لهم، فها هي الإمارات العربية المتحدة، أكبر داعم للتطبيع مع الاحتلال، ترد بغضب على اقتراح من نتنياهو بأن الإمارات العربية المتحدة يمكنها أن تساعد في إدارة غزة بعد حماس. وبّخ وزير خارجية الإمارات الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان نتنياهو عبر تغريدة على إكس، قائلا؛ إن أبو ظبي تندد بتصريحات رئيس وزراء الاحتلال.
وقال: “تؤكد الإمارات العربية المتحدة أن رئيس وزراء الاحتلال ليس لديه أي مسوغ قانوني لاتخاذ هذه الخطوة، كما ترفض الإمارات العربية المتحدة أن تجر إلى أي خطة توفر غطاء لوجود الاحتلال الإسرائيلي داخل قطاع غزة”.
من بلفور إلى كاميرون
لقد غدت رفح كأسا مسمومة لأي زعيم عربي، بغض النظر عن كراهيتهم للإخوان المسلمين أو لحماس. ولذا، ما لم يحدث انعطاف آخر في السياسة الخارجية البائسة لبايدن، فإن من المتوقع أن تستمر هذه الحرب طوال حملته الانتخابية، وحتى العام المقبل.
لم يزل صانعو «إسرائيل» الاستعماريون في طور التشك؛ من اللورد بلفور، الذي مهد إعلانه في عام 1917 لإقامة الوطن اليهودي في فلسطين، إلى اللورد كاميرون، لم يطرأ تغير على السياسة.
لم يمنح بلفور اسما للفلسطينيين، ولم يتحدث عن حقوقهم السياسية، بل تكلم فقط عن مجتمعات السكان الأصليين كما لو كانوا أقلية. والحقيقة هي أن اليهود كانوا لا يشكلون أكثر من 10 بالمائة من سكان فلسطين في ذلك الوقت.
لا يعمل كاميرون شيئا من أجل إقامة دولة فلسطينية، وكل ما يصدر عنه هو كلام معسول. في هذه الأثناء، ومن خلال دعمه للحرب، فإنه يبذل قصارى جهده لمساعدة الاحتلا على تدمير الدولة الفلسطينية في غزة.
كان إعلان بلفور مثيرا للجدل في حينه كما هو الآن. كان إدوين مونتاغ فقط ثالث يهودي ممارس لشعائر دينه يتسلم منصبا في الوزارة البريطانية. وهو الذي كتب في أغسطس من عام 1917 مقالا مطولا وفصيحا، يندد فيه بالصهيونية، واصفا إياها بالعقيدة السياسية الخبيثة، وتنبأ بدقة مثيرة للإعجاب، ما الذي سيكون عليه سلوك دولة صهيونية.
“أفترض أن ذلك يعني أن المحمديين (المسلمين)، والنصارى، سوف يتيحون المجال أمام اليهود، وأن اليهود ينبغي أن ينصبوا في جميع الوظائف ذات الأفضلية، وأنه يتوجب أن يرتبطوا بطريقة غريبة بفلسطين، بالشكل نفسه الذي ترتبط به إنجلترا بالإنجليز أو فرنسا بالفرنسيين، وأن الترك أو المحمديين في فلسطين سوف يُعدّون أجانب، تماما كما أن اليهود من الآن فصاعدا سوف يعدّون أجانب في كل بلد عدا فلسطين. ولربما ينبغي كذلك منح الجنسية فقط كنتيجة لاختبار ديني”.
وقال كذلك؛ “إن الصهيونية معادية للسامية حتى النخاع”.
على خطا بلفور، دافيد كاميرون يجر بريطانيا إلى حيث لا قيمة لها تذكر في الشرق الأوسط.
لربما حان الوقت لأن تتقاعد الطبقة السياسية بأسرها، وأن يبادر جيل جديد بإلقاء هذه السياسة في المكان الوحيد الذي تستحق أن تستقر فيه؛ في مزبلة التاريخ.
لقد تسبب دعم بريطانيا للصهيونية في إشعال صراع لم يزل مستمرا منذ ستة وسبعين عاما. حان الوقت لأن يتوقف ذلك. لم تعد مبررات هذه الهمجية مقبولة.