نشرت صحيفة “نيويوركر” الأمريكية تقريرا حول أزمة الغذاء المنتشرة في كافة أنحاء قطاع غزة، وسط تحذيرات حقيقية من الوصول إلى مجاعة في ظل العدوان الإسرائيلي المتواصل منذ ثلاثة أشهر.
“نيويوركر” وفي تقرير أعده إسحاق شوتينر، حاور خلاله كبير الاقتصاديين في برنامج الأغذية العالمية، عارف حسين، كشفت عن مأساة حقيقية يعيشها نسبة كبيرة من سكان القطاع الذي يتجاوز سكانه حاجز المليوني نسمة.
وتاليا الترجمة الكاملة للتقرير:
في الشهر الماضي، وصف تقرير صادر عن الأمم المتحدة حول الجوع الوضع الكارثي في غزة، حيث يواجه أكثر من تسعين بالمائة من السكان “شحاً شديداً في الغذاء،” وحيث “باتت كل العائلات تقريباً تفوت وجبات الطعام كل يوم”.
بل يتوقع أن تكون معظم غزة خلال الأشهر القادمة على شفا المجاعة. ولا أدل على ذلك من أن كثيراً من الآباء والأمهات يمتنعون عن تناول الطعام حتى يضمنوا لأطفالهم على الأقل تناول شيء من الطعام. وحيثما يتوفر الطعام، فإن أسعاره مرتفعة جداً، ما يحول بينه وبين أسر الطبقة المتوسطة.
ولاحظ التقرير أن “هذه أكبر حصة من الناس تواجه مستويات مرتفعة من الشح الشديد في الأمن الغذائي” يتم تدوينها “لأي منطقة أو أي بلد على الإطلاق”.
ولقد تحدثت مؤخراً عبر الهاتف مع عارف حسين، كبير الاقتصاديين في برنامج الغذاء العالمي، إحدى المنظمات الشريكة في إعداد التقرير. من الجدير بالذكر أن برنامج الغذاء العالمي يجمع كذلك البيانات حول الجوع من مختلف أنحاء العالم ثم يقوم بتوصيل الطعام إلى من هم في أمس الحاجة إليه. خلال محادثتنا، التي خضعت للتحرير لضبط الطول وضمان الوضوح، ناقشنا ما يواجهه حالياً أهل غزة، وما هو السبب في عدم تمكن الكثيرين من الحصول على الطعام، ولماذا تعتبر هذه الأزمة غير مسبوقة..
من فضلك، هل لك أن تشرح لنا الوضع في ما يتعلق بمدى توفر الأغذية داخل غزة في الوقت الحالي؟
في المحصلة النهائية، الجميع في غزة يعانون من الجوع حالياً. في مجال تحليل الأمن الغذائي، نعمل شيئاً يسمى آي بيه سي، أو تصنيف المرحلة المتكامل. وهذا عبارة عن تمرين يدخل فيه ما يقرب من ثلاثة وعشرين شريكاً، بما في ذلك 19 وكالة ومنظمة دولية غير حكومية وحوالي أربعة مانحين. تقوم هذه المجموعة بتحليل وضع الأمن الغذائي، وبناء على ذلك الأساس، تقوم برفع تقرير يتميز بالاستقلالية، لأنه ليس من إنجاز وكالة وحيدة أو كيان واحد. كما أنه تحليل قائم على الإجماع.
يتم إجراء هذا التمرين في ما بين أربعين وخمسين بلداً حول العالم ممن لديهم مشكلة في الأمن الغذائي، سواء بسبب النزاع أو المناخ أو أي شيء آخر. ما يعمله تصنيف المرحلة المتكامل في أي مكان يقع عليه الاختيار هو تصنيف الناس إلى خمس فئات مختلفة.
المرحلة الأولى من التصنيف المتكامل هي التي كل شيء فيها على ما يرام.
المرحلة الثانية من التصنيف هي التي يواجه الناس فيها صعوبة من حيث وضع الأمن الغذائي الخاص بهم.
والمرحلة الثالثة من التصنيف هي التي يكون فيها الناس في أزمة من حيث وضع الأمن الغذائي الخاص بهم.
والمرحلة الرابعة هي التي يكون فيها الأمن الغذائي للناس في حالة طوارئ.
وأما المرحلة الأخيرة، فهي التي تسمى مرحلة المجاعة، أو مرحلة النكبة.
تم الآن عمل نفس التحليل بخصوص غزة، وظهرت النتائج في شهر ديسمبر (كانون الأول)، ووفقاً لتلك النتائج فإن جل السكان البالغ عددهم 2.2 مليون نسمة يمرون بمرحلة الأزمة، أو بما هو أسوأ، من حيث وضع الأمن الغذائي.
هل لك أن تشرح لنا الفرق ما بين الأزمة والطوارئ والمجاعة؟
إنه مقياس لمستوى ما يتوفر لدى الناس من أمن غذائي ولما يستهلكونه من طعام، ولمدى قدرتهم على الحصول على الغذاء، ولأنماط ما يستخدمونه من استراتيجيات التحمل والتكيف. كما أنه يبحث أيضاً في عدد من المؤشرات الأخرى، بما في ذلك المؤشرات الاجتماعية الاقتصادية. نسأل، ما هو الوضع الآن، وكذلك، ما الذي تتوقعونه فيما بعد، لنقل بعد بضعة شهور؟ يختلف التصنيف عند تلك العتبات كلما زادت الحدة، وصولاً إلى الأزمة. ثم إذا ما كان الوضع أسوأ من أزمة فإنه يتحول إلى طارئ، ثم إذا كان أسوأ من الطارئ، فإنه يتحول إلى مجاعة أو نكبة.
ولكن دعني أحدد لك مواصفات المجاعة. إنها تعني جوهرياً أنه في أي مكان من الوحدة الجغرافية، لا بد أن يكون عشرون بالمائة من السكان يتضورون جوعاً – تلك هي المواصفة الأولى.
وأما المواصفة الثانية فهي أنه لا بد أن يكون ثلاثون بالمائة من الأطفال يعانون من سوء تغذية حاد أو مصابين بالهزال.
ثم تأتي المواصفة الثالثة وهي أنه لابد أن يكون معدل الوفيات، معدل الموت، ضعف ما يكون عليه في المتوسط، بما يعني أنه بين الكبار يتضاعف من واحد لكل عشرة آلاف في اليوم إلى اثنين لكل عشرة آلاف في اليوم. أما بالنسبة للأطفال، فيرتفع من اثنين لكل عشرة آلاف في اليوم إلى أربعة لكل عشرة آلاف في اليوم. إذا اجتمعت هذه الشروط معاً في مكان واحد، فهذا يعني المجاعة.
والمحصلة هي ألا تنتظر حتى تقول “حسناً، لدينا مجاعة فهيا بنا نعمل”.. لأنك بحاجة لأن تعمل من أجل تجنب المجاعة، أليس كذلك؟ فأنت إذا قلت “حسناً، هيا بنا نعمل شيئاً لأن لدينا مجاعة”، فهذا يعني أنك تقول بأن الناس يموتون بسبب المجاعة، وأن الأطفال يعانون من الهزال، وأن الناس يتضورون جوعاً.
ليست هذه هي الفكرة، وإنما الفكرة هي أنه ينبغي علينا ألا نسمح بوصول السكان إلى ذلك الوضع.
والآن، في حالة غزة، ربع السكان وصلوا إلى ذلك الوضع، بما يعني أنهم في مستويات كارثية من الجوع. لا نسمي ذلك مجاعة كاملة. لماذا؟ لأنهم لم تتوفر لديهم المواصفتان الأخريان، بما يعني أنه يصعب القول ما إذا كان ثلاثون بالمائة من الأطفال هناك قد أصيبوا بالهزال أو ما إذا كان معدل الوفيات لديهم قد تضاعف. لماذا؟ لأن الأنظمة الصحية لديهم مدمرة. ولكن ما يقوله التقرير هو أنه إذا ما استمر ذلك الذي يحدث الآن أو إذا ما ازداد سوءاً، فإننا قريباً جداً، ربما خلال الشهور الستة القادمة، سوف يكون لدينا مجاعة مكتملة الأركان.
كيف تبدو غزة مشابهة لمناطق النزاع الأخرى، وكيف تبدو مختلفة عنها؟
لم أزل أقوم بهذا العمل منذ عقدين، وسافرت إلى كل أنواع النزاعات وشاهدت كل أنواع الأزمات. بالنسبة لي، هذا وضع غير مسبوق، وذلك أولاً بسبب الحجم، فهو ينال كل سكان ذلك المكان، وثانياً، بسبب الشدة، وثالثاً، بسبب السرعة التي يحدث فيها ذلك. لكل هذه الأسباب فإنه حدث غير مسبوق. طوال حياتي لم أشهد شيئاً كهذا من حيث الشدة ومن حيث الحجم ومن حيث السرعة.
تشير بعض التقارير إلى أنه في بعض الأماكن داخل غزة، غدت أسعار الطعام مرتفعة جداً. هل بإمكانك التحدث عن ما نراه في غزة تحديداً؟
الوصول إلى الطعام يحدث بوسيلتين: إحداهما الوصول البدني إلى الطعام، والآخر هو الوصول الاقتصادي إلى الطعام – يجب أن يأتي الطعام، ثم بعد ذلك تحتاج شبكات التوريد أن تعمل.
ثم، إذا ما وصل الطعام إلى هناك، فهل هو في متناول الناس؟ فالأمر يتعلق أولاً وأخيراً بمدى قدرة السكان على الحصول على الطعام. ونفس الحكاية تنطبق على غزة. ما يحدث في غزة هو أنها تعتمد على الأطعمة المستوردة من الخارج وكذلك على السلع الأساسية الأخرى المستوردة، أليس كذلك؟ ذلك كان الحال قبل الحرب، وكذلك هو الحال الآن.
الشيء الذي يجب أن يحصل: يحتاج الطعام أن يأتي بشكل منتظم من خلال المعابر المختلفة. ولكن حينما أقول إن الطعام بحاجة إلى أن يأتي، السلع الأساسية الأخرى، مثل المياه والدواء والوقود، كل هذه الأمور تحتاج لأن تدخل، وتحتاج لأن تدخل بكميات كافية.
والأمر الثاني هو أن الناس بحاجة لأن تحصل على الطعام، سواء عبر المساعدات الإنسانية أو القنوات التجارية. يحتاج الناس لأن يكونوا قادرين على تأمين ذلك. ولهذا السبب، بالنسبة لنا، ما هو بالغ الأهمية ليس فقط القدرة فعلياً على جلب هذه السلع، ولكن أيضاً القدرة على توصيلها للناس، حيثما تواجدوا. لا يكفي القول: “إليكم الطعام، ها قد وصل إلى البلد”. إذا لم نكن قادرين على الوصول إلى الناس وتقديم المساعدة لهم، فإن الأمر لن يجدي نفعاً.
ولهذا السبب يستمر الناس في الحديث عن هدنة إنسانية، من شأنها أن تسمح لنا ليس فقط بجلب الطعام وغير ذلك من السلع الأساسية، ولكن أيضاً القيام فعلياً بتوزيعها بطريقة آمنة. إذا كان لديك طعام يأتي إلى الداخل، ولكنك لا تتمكن من توزيعه، فكأنما الطعام لم يأت أصلاً.
تحتاج غزة إلى توريد المزيد من الطعام إليها. في أحسن الأحوال، تجلب جماعات الإغاثة إلى الداخل ربما خمسة وعشرين إلى ثلاثين بالمائة مما يحتاجونه بالفعل. ولذلك، وبكل وضوح، فإن ثمة حاجة إلى المزيد من الطعام والوقود والأدوية والمياه، التي ينبغي أن تجلب إلى الداخل. ولكن تحتاج هذه إلى أن توزع بشكل جيد، وتحتاج لأن تذهب إلى حيث يتواجد الناس. ولا أدري كيف يمكنك أن تفعل ذلك بدون هدنة إنسانية.
دعنا نعود إلى السؤال حول كيفية إعدادكم لهذا التقرير بالاشتراك مع ثلة من المنظمات. لكم يصعب على وسائل الإعلام والعاملين في منظمات حقوق الإنسان التواجد على الأرض داخل غزة. هل بإمكانك الحديث عن كيف يتم إعداد تقرير كهذا في مثل هذه الظروف؟
بالنسبة لتقرير غزة، كانت هناك سبع عشرة وكالة تضافرت معاً. وكانت عبارة عن مزيج من الوكالات التابعة للأمم المتحدة ومن المنظمات الدولية غير الحكومية. تم الاعتماد على آخر المعلومات التي تتوفر لديهم. تمكنا من إجراء مسحين من خلال الاتصال بالناس عبر هواتفهم النقالة. في إحدى الحالات، اشتمل ذلك على أربعمئة استطلاع كامل.
جرى ذلك أثناء فترة توقف الحرب للتأكد من وضع الأمن الغذائي للناس، في الشمال وفي الجنوب على حد سواء. ثم كان هناك مسح آخر، وهذا جرى فيه استطلاع مائة وخمسين عائلة، وذلك بعد انتهاء فترة التوقف. هذا نوع واحد فقط من المعلومات، ولكن تذكر، لديك اليونيسيف، ولديك آخرون أيضاً ممن يجمعون كل هذه البيانات.
والأمر الآخر، وهو في الحقيقة أمر مهم في مثل هذا النوع من التمرين، هو أنه كلما كان هناك وضع بالغ السوء، لدرجة أنك قد تعتبره مجاعة، فأنت هنا تستدعي الخبراء. وهؤلاء يطلق عليهم اسم لجنة مراجعة المجاعة، والتي تتضمن في هذه الحالة خمسة خبراء مختلفين مهمتهم النظر في البيانات، والتأكد من مدى صحتها، ثم التأكد من صحة النتائج التي توصل إليها أولئك المحللون المنتسبون إلى الوكالات السبع عشرة المختلفة.
هذا أشبه بعملية التدقيق في جودة البيانات، وكذلك مدى صحة التحليل. وهم الذين قالوا إنه إذا تفاقمت الأزمة أو استمرت بنفس الوتيرة التي هي عليها، فإن من المحتمل أن يكون لدينا مجاعة كاملة الأركان خلال الشهور الستة القادمة.
لقد ذكرت أنه توجد معايير مختلفة لقياس الجوع أو المجاعة في حالة الأطفال وفي حالة الكبار. هل بإمكانك الحديث عن أسباب ذلك؟ وهل بإمكانك الحديث حول الأمور التي تواجه الأطفال تحديداً، حينما يعانون من نقص في الطعام؟
الأطفال هم باستمرار الأكثر ضعفاً وعرضة للأذى، وذلك حينما نبحث في أمر الأمن الغذائي. فما هي المتطلبات الأساسية هناك؟ يجب عليك أن تبحث في ما إذا كان هناك طعام، في ما إذا كان هناك ماء، في ما إذا كانت هناك نظافة، في ما إذا كان هناك مأوى، في ما إذا كان هناك دواء. وينبغي عليك أن تبحث في الوضع البيئي الذي يعيش فيه الناس، الكبار والأطفال على حد سواء.
وعندما نتحدث عن غزة، وإذا كنا نصدق البيانات التي حصلنا عليها من منظمة الصحة العالمية، فهناك رشاش استحمام واحد لكل أربعة آلاف وخمسمائة شخص، وهناك مرحاض واحد لكل مائتين وعشرين شخص. هناك ما يزيد على الـ1.5 مليون شخص يمكثون في مكان شديد الازدحام. وهذه أيضاً وصفة لانتشار الأوبئة. الآن، من هم الأكثر عرضة للتضرر في مثل هذا الوضع؟ إنهم الأطفال.
تذكر أن الشرط الثاني لتحقق المجاعة هو أن يكون ثلاثون بالمائة من الأطفال في حالة من الهزال. عندما ترى هؤلاء الأطفال الذين لا يزن الواحد منهم ما ينبغي أن يكون عليه وزنه، ويبدو عليهم الضعف، فهم في غاية النحافة، فإن المصطلح الذي يطلق على ذلك هو “الهزال”.
ولكن دعني الآن أعطيك إحصائية أخرى، والتي قد تساعد في إدراك عظم الأمر. إذا ألقيت نظرة عالمية، في أرجاء المعمورة، في هذا الوقت بالذات، فإنه يوجد 129 ألف شخص في المرحلة الخامسة من التصنيف المتكامل. والمرحلة الخامسة تعني وجود جوع من النوع الكارثي.
اقرأ أيضا:
WP: لماذا فشل السياج الإسرائيلي حول غزة في منع “طوفان الأقصى”؟
هؤلاء عددهم 129 ألفاً على مستوى العالم. أما في غزة فهناك 577 ألفاً. إذا ما جمعنا هذين الرقمين معاً، فبإمكانك القول إن لدينا 700 ألف إنسان في العالم ممن دخلوا في المرحلة الخامسة من التصنيف المتكامل، منهم 577 ألفاً في غزة وحدها. وهذا يعني أن ثمانية بالمائة من الناس، أو أربعة من كل خمسة، ممن يعانون من المجاعة أو من نمط كارثي من الجوع، يوجدون حالياً في غزة. وهذا أيضاً هو ما يجعل هذا الأمر غير مسبوق.