كتبه: الأستاذ خالد خطاب – عضو المكتب التنفيذي برابطة النهضة و الإصلاح
للشعب المصري من رئيسه مطالب. يحلم بذلك النموذج الذي يعيش فيه حرا كريما يجد عيشه ويأمن في داره، قد نهضت بلاده وأفاقت من كبوتها.
ماذا عن الرئيس محمد مرسي؟ هل يحلم مثلنا بنفس الصورة؟ وهل يسعى إلى تحقيق نفس النموذج؟
في الواقع، فإن أشد الناس إساءة للظن وأقلّهم إعذارا لخلق الله، ليدركون أن رئيس البلاد أيا كانت ملته وعقيدته وقيمه الأخلاقية، لابد أن يقاتل وينحت في الصخر كي ينجح مشروعه، وإلا لَحِقته لعنات التاريخ حتى بعد أن يواريه تراب قبره وإلى يوم يُبعثون، وهذا على المستوى الوطني والإسلامي، فتاريخ مصر سيذكر أنه حال فشله قد أضاع الثورة وأعاد دولة القهر والبطالة والفساد، أو أنه -حال نجاحه- هو ذاك البطل الذي انتشل الدولة من غيابة الجب إلى أعلى قمم النهضة والازدهار، وتاريخ الإسلام سيذكر أنه الرئيس الإسلامي الأول في تاريخ مصر، الذي إما أنه قد خذل الفكرة الإسلامية وطوى ذكرها لعقود في المستقبل بفشله، أو أنه كان الرجل الذي أثبت لها وللعالم أن النموذج الإسلامي هو الأصلح للبلاد وللعباد، وأنه الأعظم على الإطلاق.
ولكن كونه يريد مثلك تماما الوصول بالبلاد لهذه الحالة، فإنّ ذلك لا يعني أنه سيسلك الطريق الذي تمليه عليه أنت، لا يحيد عنه قيد أنملة. بل قد يرى أن الطريق الذي تطالبه بالسير فيه مستحيل السلوك، لو خطا فيه خطوتين لقطع عليه وانهار كل شيء.
فإن كنت أنت وهو متفقَين على أن الإصلاح تدركه إذا خرجت من القاهرة وبلغت الإسكندرية، فإنك قد لا تتصوّر طريقا لبلوغه إلا طريق القاهرة – الإسكندرية الصحراوي مثلا، بينما هو يرى بما لديه من معلومات (وقد يكون مبالغا فيها) أنه بمجرد مجاوزته لبضعة كيلو مترات على هذا الطريق فإنه سيواجه قاطع طريق يأخذ منه كل شيء قد أعدّه لبلوغ الإسكندرية وتحصّل عليه على مدار قرابة القرن، ما يعني انهيار المشروع وضياع الحلم.
ما الحل الذي تفتّق عنه ذهنه إذن؟
سيسلك طريقا طويلة غير مباشر، لعل من فرط طوله وبعده عن الطريق المباشر يظن الظان أنه قد ضل الطريق أو باع القضية. سييمم وجهه شطر بورسعيد أو ربما ساحل شمال سيناء، قاصدا التوجه منها إلى الإسكندرية!
لو قابلته في هذا الطريق ذات يوم وقلت له: بربك، إلى أي محافظة تتوجه، فأجابك: إلى الإسكندرية، لصحت في وجهه: كذبت! فمن قصد الإسكندرية سلك طريقها، لكنه في الواقع آثر سلوك هذا الطريق الطويل الآمن (نسبيا) من وجهة نظره عن الطريق المباشر، الذي يراه وإن كان قصيرا، إلا أنه لن يحقق المقصود ولن يبلّغه مقصده.
ولو تأمّلت في حال الدكتور مرسي، لوجدت أن سلوك هذا الطريق هو الأليق بكونه إخوانيا، وكذلك بكونه رئيسا.
فالدكتور مرسي مهما بلغ من سلطة ومهما انفتح وصار رئيسا لكل الشعب، فإن طريقة الإخوان الإصلاحية التي تشربها على مدار عقود من الزمان، بدءا من لقاءات الأسر وانتهاء بعضوية مكتب الإرشاد، حتى سارت تجري منه مجرى الدم، هذه الطريقة لن يخلعها، ولو حاول لما استطاع، وستظل حاكمة لتصرفاته إلا أن تجد من الأحداث ما تدفعه إلى تغيير جذري لتتعامل مع موقف معين، ثم الرجوع إلى القواعد الإصلاحية البطيئة سالما.
ولذلك، فطبيعة جماعة الإخوان تجعل الباحثين عاجزين عن وصف منجزاتهم أو أخطائهم وإحفاقاتهم على مدار فترة قصيرة، بل يُحكم عليها بالأجيال، وتقيّم تجاربهم بالعقود وربما فيما بعد بالقرون. ويكفي أن أذكّرك بأن البرنامج الرئاسي للدكتور مرسي ما هو إلا مرحلة التأهيل لمشروع النهضة، (2012-2014)، ولن تبدأ مرحلة البناء والتشغيل إلا في 2015، ثم تبدأ مرحلة "انطلاق النهضة" في 2020!، لتبدأ مرحلة ثمار النهضة في عام 2026. وهذا وفق البرنامج المطبوع لمشروع النهضة، بينما كنا ننتظر حل مشاكل البلاد في المائة يوم الأولى، ولست أدرى كيف ألزم نفسه بذلك!
ولو قلت إن أصبر شخصية على الأذى وأكظمها للغيظ في مصر هي الشخصية الإخوانية لما كنت مبالغا، فظروف نشأة الجماعة ومِحَنها المتتالية وبطش الحكام بهم على مر العصور جعل خطاب (فاصبر إن وعد الله حق) و "لكنكم تستعجلون" و(إنما أشكو بثي وحزني إلى الله) هو السائد المقدّم في ساعات البلاء أو ما يقاربها، فمعاني الصبر على الأذى حتى يتحقق الموعود والتحمّل في صمت كي تنضج الثمرة هي المعاني –في نظري- الأكثر حضورا في عقلية الإخواني، ولو بلغ كرسي الرئاسة.
بل إن الرئاسة وإن ظن البعض أنها ترفع هذا الشعور، إذ الحصول على السلطة نقيض الاستضعاف في الظاهر، إلا أنها -أي السلطة، والله أعلم- لا تزيد هذا الشعور إلا تضخما.
فالشاب الإخواني الذي كان يصبر على أذى من يسبه أو يضربه كي تمر الأمور بسلام وينجح حفل جامعي أو ندوة في حي، سوف يُضطر لأن يكون اكظم لغيظه وأبعد عن إنفاذ غضبه ووعيده إذا ما كان عضوا في مكتب الإرشاد، يمثل غضبه غضب جماعة بأسرها، ويترتب على إنفاذه من التداعيات ما لا يترتب على غضب الشاب (الأخ) منظّم الندوة في مدرج الجامعة.
فما بالك برئيس للبلاد، تتبلور في رئاسته أكبر وأعظم مكاسب الإخوان منذ ولادتها، يتجاوز غضبه غضب الجماعة إلى غضب دولة بأسرها، يتربّص بها الشرق والغرب، في جملة من الحسابات أعقد من معادلات القنبلة الذرية! والله لا أستبعد أنه قد صار يشكو بثه وحزنه إلى الله أكثر مما كان يفعل من قبل.
والقاعدة التي لا ينبغي أن تغفلها في لحظة حماسة أو غيرة محمودة إن شاء الله، هي أن الإنسان كلما ارتقى في السلّم الوظيفي، كلما كانت حساباته أعقد، إذ يطّلع على أمور لا يسعه تجاهلها، بحيث تدخل في معادلاته غصبا عنه عشرات المعطيات التي ربما لا يطلع على نصفها رئيس حكومته، فضلا عن سائر شعبه، تعطي بطبيعة الحال عشرات الخيارات وتفتح مئات المسارات، ربما ليس منها أصلا هذا المسار الذي تتمنى أنت أن يسلكه.
ولا يعنى ذلك أن اختياراته كلها سليمة، أو أن كل إحجام منه وتباطؤ يكون محمودا مبررا. كيف وهو بشر؟ كيف وقد رأينا من أخطائه بأعيننا كذا وكذا. ولكني أزعم أن النسبة الأكبر من اختياراته التي يخالفه فيها من ليس في موضعه يكون الصواب إلى جانبه هو، لا إلى جانب من ينتقده.
ولعلنا رأينا بأعيننا كيف اقترب السلفيون من الإخوان في مسائل شرعية واجتهادات سياسية عدة بمجرّد دخولهم العمل السياسي والحزبي وإن لم ينالوا سلطة، بينما كانوا ينقمونها عليهم قبل الثورة بصورة قطعية، وإن كان الفارق في الخطاب لا يزال موجودا لا يُنكر.
ولعلنا رأينا أيضا أن المشاريع الأخرى التي تتبنى خطابا أقوى وطرحا أوضح لم تتح لها الفرصة حتى اللحظة، بل الحقيقة المرة: أنها ما استطاعت أن تدخل الحلبة أصلا، وضربت قبل الوصول، وهي تعد العدة وتحاول من جديد .
إن تأمّلت ما سبق كله، فلربما قنعت أن سلوك طريق (القاهرة –بورسعيد، بورسعيد-الإسكندرية) هو خيار الرئيس قولا واحدا، وأنه لم يفكّر أصلا في سلوك طريق (القاهرة-الإسكندرية)، وأنه لم ولن ينتقل إلى المصادمة التي قد نظنها تجتث الفساد بصورة جذرية إلا في إحدى حالتين:
1-أن تسنح الفرصة لتوجيه ضربة لا يمكن التغاضي عنها، مثل أن يقع خصومه في خطأ فادح لا يمكن تبريره. وقد أفلحت هذه الطريقة مع طنطاوي وعنان، ولم تفلح مع النائب العام في المرة الأولى.
2-أو أن يكون يمتلك في قرارة نفسه شبه يقين بأن الاستباق بتوجيه الضربة هو الملاذ الوحيد لاتقاء ضربة استئصالية من الخصوم، كما فعل في الإعلان الدستوري.
خلاف ذلك، فلا تنتظر منه أن يفعل ما يشفي صدرك أبدا، بل ستمر عليك أوقات تكاد تموت فيه كمدا أن صمت مرسي ولم يضرب، بل ربما فاوض وحاور.
كما أن ترديد خطاب (اضرب والشعب معك) ليس دقيقا في نظري، فإن الشعب قد يسانده في صندوق مثلا، لكن في صدام يتصاعد إلى حد الفوضى التي نراها، فإن جناب الشعب –للأسف- غير مأمون.
فما الحل إذن:
ليس أمامك إن كنت لله مخلصا إلا أن تسلك أحد طريقين:
1-أن تسعى لإيجاد نموذج قوي قادر على سلوك طريق القاهرة -الإسكندرية مباشرة، مؤمّن بالقدر الذي يزيح به تلك الصعاب التي آثر مرسي تجنّبها، والتي هي أشد وأخطر من تلك التي يواجهها الآن، حتى إذا أتيحت الفرصة سلك هذا النموذج الطريق ووصل قبل مرسي والإخوان، وتحقق المقصود ونجح المشروع.
2-أو أن تسعى بكل قوة في دفع الرئيس وتذليل طريقه حتى يصل بورسعيد في أقرب وقت، لينطلق منها إلى الإسكندرية، ويتحصّل المقصود كذلك إن شاء الله.
وقد يقال: إن الجمع بين العملين لا إشكال فيه، بل ربما يكون هو الصواب بعينه.
أما الانشغال بانتقاده إذ لم يسلك طريقك، سواء على صعيد الاختيارات السياسية أو الاختيارات الشرعية، أو الظن أنك بالضغط عليه قد تجعله يعدّل مساره، فهذه أضغاث أحلام، فالعقلية الإخوانية محصّنة إلى أبعد حد من التأثير، ولو اختاروا طريقا لما انحرفوا عنه ولو اجتمع عليهم من بأقطارها، وإلا لأفلح في حرفهم عن مسارهم مبارك ودولته بحدها وحديدها.
ختاما..أسأل الله أن يذهب همك وحزنك يا دكتور مرسي، وأن يعينك ويسدد خطاك، وأن يقدر لبلادنا الخير، سواء على يديك، أو على يدي غيرك، إنه ولي ذلك والقادر عليه.