يترقب صحفيون ونشطاء من مختلف دول العالم، العرض الأول لفيلم جديد يتحدث عن “مجزرة ميدان رابعة”، التي نفذتها سلطات انقلاب عبد الفتاح السيسي، وحمل الفيلم الوثائقي عنوان: “ذكريات مجزرة: إعادة النظر في رابعة ونهاية الثورة المصرية”، الذي سيعرض بالتزامن مع الذكرى العاشرة لمقتل مئات المتظاهرين في ميدان رابعة بالقاهرة، بعد انقلاب السيسي على الرئيس الراحل محمد مرسي.
واستعرض موقع “ميديل إيست آي” أحداث الفيلم الذي يمكن التسجيل لحضور العرض الأول في الأكاديمية البريطانية لفنون السينما والتلفزيون في لندن بتاريخ 3 أغسطس المقبل،.
وقال التقرير:
في توصيف لآخر لحظات أسماء البلتاجي على قيد الحياة، تشبهها صديقة لها بالفراشة التي تحلق بعيدا “دون أن تقول وداعا”.
على الأرض داخل المستشفى، تحتضر الفتاة الشابة، وعيناها شاخصتان، بينما ينهمك المتظاهرون والمسعفون في محاولة لإنقاذ حياتها.
لم تكن أسماء قد تجاوزت السابعة عشر من عمرها. وكانت واحدة من مئات الأشخاص الذين قضوا نحبهم بنيران القناصة أو حرقا أو سحقا بالجرافات، في مذبحة جماعية ارتكبتها قوات الأمن المصرية صباح يوم الرابع عشر من أغسطس 2013.
إنه لمشهد مؤلم فوق التصور لنهاية امرأة في مقتبل العمر، وثقته عدسة الكاميرا، ويتضمنه فيلم “ذكريات مذبحة” من إخراج نيكي بولستر.
لم تدخر منظمات حقوق الإنسان ولا مجموعات النشطاء وسعا في توثيق وقائع أسوأ مذبحة في تاريخ مصر الحديث، قضى فيها ما يقرب من ألف شخص نحبهم.
بل غدت مذبحة رابعة واحدة من أكثر الفظائع توثيقا بالصوت والصورة في العصر الحديث، بوجود كم كبير من الصور ومقاطع الفيديو، التي تشهد على حجم الفظائع التي ارتكبت في ذلك اليوم، بما في ذلك مناظر الجثث المكدسة، ومشاهد المتظاهرين المنتحبين وهم يخلون جثث القتلى من الميدان، ومناظر القناصة الذين وضعوا فوق أسطح المباني المحيطة، وهم يتصيدون ضحاياهم دون أدنى محاولة لإخفاء ما كانوا يرتكبونه من جرائم قتل بدم بارد وبلا شفقة.
بالرغم من توفر كل هذه الأدلة الدامغة، إلا أن وثائقي بولستر، الذي يأتي في الذكرى السنوية العاشرة للمجزرة، يعد شهادة نادرة باللغة الإنجليزية على المذبحة، التي على الرغم من العدد الكبير من ضحاياها، لم تحظ باهتمام عالمي يمكن أن يقارن، ولو من بعيد، بما حظيت به أحداث قتل مشابهة، كمذبحة ميدان تيانانمين، على سبيل المثال.
في فيلم المخرجة بولستر، تبني المخرجة المخضرمة التي أخرجت الكثير من الأفلام لمؤسسات مرموقة مثل البي بي سي والآي تي إن ونتفليكس وأبيل تي في، وغيرها، سردية تقدم مذبحة رابعة باعتبارها الفصل الأخير في مسار الثورة المضادة، التي شنها العسكر في مصر ضد الثورة الشعبية التي أطاحت بالرئيس المصري السابق حسني مبارك في يناير (كانون الثاني) من عام 2011.
يتكون الفيلم فعليا من قسمين، في القسم الأول يتم تسليط الضوء على الأحداث التي أعقبت انطلاق ثورة الخامس والعشرين من يناير (كانون الثاني) وعلى الشعور بالأمل الذي ولد من رحم تلك الثورة.
كل من قضى وقتا في ميدان التحرير في الفترة التي تلت مباشرة سقوط مبارك، سيذكر جيدا تلك الأجواء الاحتفالية، وذلك التجمع الذي وفد إليه المصريون من كل مشارب الحياة.
تلك كانت الفترة التي كرست خلالها جماعة الإخوان المسلمين بنيتها التنظيمية، في الاستعداد لخوض أول انتخابات رئاسية ديمقراطية يجري تنظيمها في البلاد.
كان مرشحهم لانتخابات الرئاسة أستاذ جامعي، رقيق الصوت ينحدر من خلفية قروية اسمه محمد مرسي، الذي على الرغم من أنه في بداية حملته لم يكن معروفا على نطاق واسع لدى عامة الناس، إلا أنه تمكن من الفوز بفارق ضئيل من الأصوات في السباق الانتخابي، ليصبح أول زعيم للبلاد يصل إلى السلطة عبر انتخابات حرة ونزيهة.
كانت المهمة التي تنتظر مرسي عسيرة جدا، فعلى الرغم من أنه وصل إلى منصب الرئاسة، إلا أن السلطة الحقيقية ظلت في أيدي العسكر.
غدت قبضة الرئيس على السلطة مهددة بسبب شح الوقود، وما شاع من مخاوف من أن يستولي الإسلاميون على مقاليد الحكم، وهي في الأغلب مما عملت الدولة العميقة على إشاعته، الأمر الذي بدد حلم المصريين بطلوع فجر جديد.
فيما يشبه دس السم في الدسم، أوحي إلى مرسي أن يدرأ مخاطر الانقلاب العسكري المحتمل من خلال تعيين الجنرال عبد الفتاح السيسي، الذي بدا وديعا ومطيعا، في منصب وزير الدفاع.
ولكن، وكما علمنا من بعد، كان السيسي ينتظر تلك اللحظة، وهو الذي مضى يتلاعب بالطرفين إلى أن نظمت حركة تمرد احتجاجات عارمة شلت الحركة في ميدان التحرير.
وبحجة الانحياز إلى الشعب، تحرك السيسي في نهاية يونيو من عام 2013، أولا من خلال توجيه إنذار نهائي للرئيس بأن عليه أن يتنازل للمتظاهرين، ثم بالإطاحة بمرسي.
شهد الشهر الذي فصل ما بين الانقلاب والمذبحة، محاولات غير مجدية من قبل وسطاء غربيين للتوصل إلى اتفاق سياسي بين أنصار مرسي والحكام العسكريين الجدد في مصر.
في تلك الأثناء، قام المتظاهرون الذي طالبوا بإعادة مرسي إلى السلطة بالتجمع في ميدان رابعة العدوية، حيث نظموا اعتصاما، ورفضوا إخلاء الميدان حتى يُستجاب لمطالبهم.
أحد إنجازات بولستر، يتثمل في تمكنها من تجميع الأدلة الدامغة على ارتكاب السلطات المصرية للمذبحة وتقديمها للجمهور بشفافية تامة.
استبق السيسي المذبحة بتقمصه لشخصية سفاح شيلي بينوشيه، بما في ذلك ارتداء النظارات الشمسية في أثناء إلقائه لخطاب الإعلان عن قرار إخلاء الميدان.
وفي يوم الفض ذاته، انتشرت القوات المصرية تتقدمها الجرافات والعربات المدرعة، معلنة عبر مكبرات الصوت عن نيتها إخلاء المكان؛ في محاولة غير صادقة لتجنب المجزرة الوشيكة، وذلك أن مثل هذا الإعلان لم يكن ليسمعه أغلبية المشاركين في الاعتصام. ولا أدل على ذلك، من أنه بعد دقائق معدودة من الإعلان عن قرار الإخلاء، بدأ إطلاق النار على الجموع داخل الميدان.
مقاطع الفيديو التي يحتويها الفيلم، وخاصة صور الجنود المصريين الذين يصوبون بنادقهم من فوق أسطح المباني تجاه ضحاياهم، ويطلقون النار عليهم بهدوء مقلق وسقيم، أشبه بجنود يطلقون النار على أهداف منتقاة داخل ميدان التدريب على الرماية منه بعملية تستهدف محاربة الإرهاب.
تتجلى “شفافية التوثيق” لما نال ضحايا رصاصات القنص، في التعبيرات السريالية التي ارتسمت على وجه أسماء البلتاجي في لحظاتها الأخيرة، ولسان حالها أنها قبلت بحتمية موتها، وكذلك فيما بقي من ذكرى لمصور سكاي نيوز ميك دين، وهو يقول لزميله كريغ سومرز: “لقد أصبت”.
من خلال هذه الحالة المتقابلة من قسوة الجلادين والإذعان الهادئ للقدر المحتوم من قبل ضحاياهم، تنطبع في أذهان المشاهدين مناظر الدم والدمار التي خلفتها المذبحة، ولكم هي كثيرة.
مع أنه فعليا يقدم توثيقا للفظائع التي ارتكبت بحق الناس في ميدان رابعة، إلا أن فيلم “ذكريات مذبحة” أكثر من مجرد تسجيل لوقائع جرائم قتل؛ ذلك أن الرواية التي يقدمها تتضمن حكاية موت الديمقراطية المصرية نفسها.
لم تلبث الآمال والأحلام بولادة مصر جديدة بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير أن تبددت، وتمهد السبيل بدلا من ذلك أمام قيام نظام عسكري أكثر وحشية وأشد قمعيا من ذلك الذي أطاحت به انتفاضة عام 2011.
بنجاح انقلاب السيسي، بات المصريون في مواجهة نظام عسكري متمكن ومتجدد، يعلم أن بإمكانه اتخاذ ما شاء من إجراءات وحشية ضد شعبه، دون أن يتعرض لأي مساءلة أو حساب.
في هذا الوثائقي، ينضم بن روديس، أحد المسؤولين في إدارة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، إلى قائمة مرموقة من أصحاب الفكر والرأي، بما في ذلك مراسل صحيفة نيويورك تايمز دافيد دي كيركباتريك، ومسؤولة منظمة هيومان رايتس ووتش السابقة سارة ليا ويتسون، ومصور وكالة الأسوشييتد بريس مصعب الشامي، بالإضافة إلى أصدقاء وأفراد عائلات عدد من الضحايا.
بينما يقدم كل هؤلاء شهادات مهمة، إلا أن المثير في شهادة النائب السابق لمستشار الأمن القومي للرئيس السابق أوباما، أنها تلخص كيف توقع السيسي ومن تواطؤوا معه في الانقلاب، وكانوا صائبين في توقعهم، أن الانقلاب على مرسي لن يواجه معارضة من قبل الولايات المتحدة.
يرسم روديس خطّا فاصلا بين انعدام الفعل وما آلت إليه الأمور من وقوع مذبحة في ميدان رابعة.
يقول روديس عن ذلك: “كانت تلك التجربة من أكثر ما يسبب الاكتئاب وخيبة الأمل ويثير السخط؛ لأننا كحكومة اتخذنا قرارا بعدم عمل شيء للوقوف في وجه هذا الانقلاب، وها نحن نرى أسوأ ما نجم عنه من تداعيات”.
وبالفعل، لم ينته عند رابعة إحساس السيسي بأنه في مأمن من المساءلة والمحاسبة، فبعد مرور عقد من الزمن، ما زال عشرات الآلاف من المصريين مغيبين في الزنازين، حيث يحتجزون بدون وجه حق، ودون محاكمات عادلة ونزيهة تدينهم.
ذات يوم، كان من بينهم الرئيس السابق محمد مرسي، الذي توفي داخل المحكمة في السابع عشر من يونيو (حزيران) 2019، بينما كان يحاكم بتهمة التجسس.