“الشباب محتاج يعيش وياكل وإلا هيسيبك ويهرب في البحر”.. في كلمته الأسبوع الماضي لخص عبد الفتاح السيسي السبب الرئيس وراء تزايد الهجرة غير الشرعية بين أوساط الشعب المصري.. ضعف شديد في الخدمات، وصعوبة توفير حياة كريمة، وارتفاع بالغ في الأسعار وصعوبة توفير الطعام والشراب، وارتفاع واضح في نسب الفقر بين المصريين.. كلها أسباب كانت جزءا رئيسا مما سيحدث بعد كلمة السيسي بساعات قليلة.
إنها حادثة مروعة، إنها الأسوأ على الإطلاق منذ سنوات.. هكذا وصفت مفوضية اللاجئين التابعة للأمم المتحدة حادثة غرق مركب صيد قبالة السواحل اليونانية وعلى متنه ما يقارب 750 مهاجرا من دول مختلفة أبرزها مصر وسوريا.
قبل كلمة السيسي بأيام تلقّى مواطن مصري في إحدى القرى المصرية الفقيرة اتصالا من رقم مجهول، أخبره أن ابنه مختطف في ليبيا وسيتم إطلاق الرصاص على رأسه إذا لم يرسل لهم الأب المكلوم 140 ألف جنيه مصري (ما يوازي 4500 دولار)، لم يفهم الأب ما الذي حدث ولكنه تحدث إلى ولده الذي يبلغ من العمر 14 عاما الذي أخبره بهروبه من مصر ونيته السفر عبر البحر إلى إيطاليا، فهناك ستتوفر له حياة كريمة وتعليم أفضل.
قصة هذا الطفل المصري تكررت مع أكثر من 13 شابا مصريا تم تحديد أسمائهم حتى الآن وفقا لتقرير لهيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي؛ كانوا على متن نفس القارب ودفعوا للمهربين نفس المبالغ حتى يتسنّى لأبنائهم الهروب إلى أوروبا بحثا عن لقمة عيش وحياة كريمة.
قواعد اللجوء والهجرة الخمس تقول:
– لا أحد يغادر وطنه إلا إذا دفعك الوطن نحو الشاطئ.
– لا أحد يرمي بأطفاله في القارب إلا إذا كان البحر أكثر أمانا من البر.
– لا أحد يغادر وطنه إلا إذا تحول الوطن إلى خطر على حياته.
– لا أحد يختار مخيمات اللجوء وانتهاكات حرس الحدود إلا إذا كان الوطن أكثر إيلاما.
– الرهان على فرصة واحدة ولو كانت خطرا أفضل من الموت جوعا داخل الوطن.
ما دفع أكثر من 750 شخص للمغامرة بحياتهم في واحدة من أكثر المغامرات خطورة وأصعبها وأقساها؛ أن حكومات بلادهم قررت تدمير حياتهم وإفقارهم وتهديد أمنهم والعبث بحاضرهم ومستقبلهم.
رحلة الموت تمر أولا بمحطة الهروب من الوطن وحكامه، لتصل إلى مرحلتها الثانية التي لا تقل ظلمة وقهرا عن معاناتهم في بلدهم الأم؛ عبور الحدود والتسليم الكامل لمجموعة من العصابات ومهربي البشر ممن يتفننون بتعذيب وتجويع المهاجرين مقابل المال هو المحطة التالية للمهاجرين، وتحديدا في ليبيا في مناطق تعرف باسم “المخازن” يستخدمها المهربون لاحتجاز المهاجرين، حتى التأكد من حصولهم على المال من أسرهم عبر وسيط.
في بداية العام الجاري نشرت الأمم المتحدة تقريرا مفاده أن مسؤولين رسميين في القيادات العليا لخفر السواحل الليبية التابع لخليفة حفتر متورطين بشكل مباشر في عمليات قذرة تتعلق بفساد مالي وتهريب البشر عبر عبور المهاجرين في قوارب لسواحل المتوسط.
في التاسع من حزيران/ يونيو الجاري حصل موقع “إي يو أوبزرفر” على وثيقة تفيد بتمديد الاتحاد الأوروبي مهمة دعم خفر السواحل الليبية لعامين قادمين، ما يعني أن دعم الاتحاد الأوروبي يذهب إلى مجموعة من الفاسدين المتعاونين مع عصابات التهريب وفقا لتقرير الأمم المتحدة.
المال أولا وليذهب الإنسان إلى الجحيم.. هذا هو الشعار الذي يرفعه السيسي وحفتر وقيس سعيد في قضية التعامل مع الهجرة غير الشرعية.
السيسي على سبيل المثال حصل على 80 مليون يورو منذ عدة أشهر من الاتحاد الأوروبي لتعزيز جهوده في منع الهجرة غير الشرعية عبر السواحل المصرية لأوروبا، وهو ما أكده السيسي أكثر من مرة في خطاباته المتكررة بأنه لم يخرج قارب هجرة غير شرعية واحد من السواحل المصرية.
منذ يومين التقى وزير الخارجية المصري سامح شكري مع جوزيب بوريل، الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسات الأمنية، وشددا على ضرورة مواجهة المهربين بشكل أكثر صرامة، وفي نهاية المؤتمر الصحفي حصل شكري على ما يريده هو والسيسي، حصل على عشرين مليون يورو لمساندة مصر في مواجهة تدفق اللاجئين السودانيين إلى مصر.
الآن الأزمة ستكون كبيرة، الاتحاد الأوروبي في مرمى نيران الصحافة والرأي العام ونواب البرلمان، الجميع يطالب بمحاسبة المسؤولين عن غرق مركب المهاجرين قبالة السواحل اليونانية، وهناك من يتحدث عن مؤامرة من خفر السواحل اليونانية لإغراق المركب والتأخر في الاستجابة لنداءات الاستغاثة التي وصلته عبر مؤسسات إغاثية مختلفة.
لم يدفع الاتحاد الأوروبي للسيسي وحفتر كي يواجه أزمة كهذه، وعلى الطرف الآخر سيطالب السيسي بأموال أكثر لا لإصلاح اقتصاده المنهار أو لتوفير حياة كريمة لمواطنيه، ولكن لفرض قيود أكبر وأكثر قسوة وصرامة على من يفكر في عبور الحدود المصرية إلى أوروبا.
مسؤولية ما حدث تقع بشكل مباشر على الحكومات القمعية في دولنا العربية، ثم على الحكومات الغربية التي تمد هذه الأنظمة السلطوية بالمال والسلاح وتستقبلهم على السجادة الحمراء، وعلى الجانب الآخر تشيّد جدرانا عالية وأسلاكا شائكة لا نهاية لها في وجه ضحايا تلك الأنظمة من المهاجرين.
في هذه الأيام يحتفل العالم بالأسبوع العالمي للاجئين، ولكن في مصر وسوريا ودول كثيرة تقام مجالس العزاء على ذويهم من ضحايا مركب المهاجرين في اليونان وسط مطالبات بالتوقف عن محاسبة الضحايا ومحاسبة المسؤول الحقيقي قبل فوات الأوان.