كتب-ديفيد هيرست:
أحدث سقوط أفغانستان في أيدي الطالبان زلزالا سرت اهتزازاته عبر الخليج، فتحرك وتبدلت الصفائح التكتونية التي تحدد من يملك أن يفعل ماذا لمن.
وها هي التحالفات التي كانت حتى عام مضى كالخرسانة لا تتزحزح تشهد تصدعا، ووصل الإحساس بالفراغ الذي أحدثه الانسحاب الأمريكي من أفغانستان إلى كل من الرياض وأبوظبي وتل أبيب فشعروا به بنفس القدر الذي شعرت به كابول.
كانت أوضح العلامات على تأرجح المباني وتشقق الطرق تلك التعهدات والمبالغ الهائلة التي وعد بها الحاكم الفعلي للإمارات العربية المتحدة تركيا، رغم ما بين البلدين من تنافس شديد على النفوذ في المنطقة.
ليست تركيا المؤشر الوحيد على التراجع الظاهر في سياسة الإمارات. فبعد لقائه الأخير مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان طار طحنون بن زايد، شقيق ولي العهد محمد بن زايد ومسؤول الأمن لديه، إلى قطر لإصلاح العلاقات بين البلدين.
قبل عام واحد فقط كانت الإمارات العربية المتحدة تحث المملكة العربية السعودية على عدم رفع الحصار عن قطر. ولذلك تعتبر هذه الزيارة الأخيرة إقراراً صريحاً بفشل الحصار فشلاً ذريعاً. فقد برزت قطر كأقوى شريك للرئيس الأمريكي جو بايدن في الخليج والدولة التي اعتمد عليها في الجلاء عن أفغانستان وفي التواصل مع حركة الطالبان.
لكم اختلف الحال عما كان عليه عند بدء الحصار عندما وصمت قطر بأنها ملاذ للإرهابيين والإسلاميين، وعندما غرد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب معرباً عن موافقته على الإجراء السعودي.
المليارات الموعودة
يحتفظ الرئيس أردوغان بنسخة نصية من محادثته الهاتفية الأخيرة مع محمد بن زايد، ولا يعرف إلا قلة من الموثوقين لديه بذلك الذي وعده به ولي عهد أبوظبي. ولقد علمت من مصادري الخاصة أن محمد بن زايد عرض على أردوغان أكثر من 10 مليار دولار من الاستثمارات.
على النقيض من حال الجانب العسكري في حكومة السودان، أو الرئيس قيس سعيد في تونس، لم يضطر أردوغان إلى الانتظار طويلاً قبل أن تصله الأموال، حتى يقال إن شركة أرامكس التي تتخذ من دبي مقراً لها تجري محادثات لشراء شركة التوصيل التركية إم إن جي كارغو.
ثمة سرية شديدة في أنقرة، ولكن شيئاً واحداً بات واضحاً ألا وهو أن الزخم لهذه البداية الجديدة مصدره أبوظبي. أردوغان متوجس، ومؤسسة السياسة الخارجية في تركيا مرتابة، وكلاهما لديهما أسباب وجيهة للحذر.
تلك هي نفس الدولة، بحسب ما يقوله وزير الخارجية مولود جاووش أوغلو، التي أنفقت ثلاثة مليارات دولار سعياً لإسقاط أردوغان في الخامس عشر من يوليو / تموز 2016 (وكانت قاب قوسين أو أدني من النجاح). لم يذكر جاووش أوغلو الإمارات العربية المتحدة بالاسم، ولكن كان واضحاً من كان يقصد عندما أشار إلى “دولة مسلمة”.
وهي نفس الدولة التي تمول مراكز البحث والتفكير التابعة للمحافظين الجدد في واشنطن، والتي تسعى بانتظام إلى فضح أردوغان وقدرته على الحفاظ على قيمة الليرة. وهي نفس الدولة التي تنافس تركيا في سوريا وفي اليمن وفي ليبيا وفي القرن الأفريقي وفي مصر وفي تونس. وهي نفسها التي كانت العقل المدبر من وراء، وأحد مؤسسي، الثورة المضادة التي أسقطت الرئيس المصري السابق محمد مرسي، وهي التي ما فتئت تحاول مراراً وتكراراً إعادة ترتيب الأوضاع في تونس والسودان واليمن. بل لقد وفرت الطائرات الإماراتية ذات مرة غطاء جوياً لمحاولة الجنرال المتمرد خليفة حفتر الاستيلاء على العاصمة طرابلس.
وهي التي أوجدت جنوداً من “الذباب الإلكتروني” لتكييف الرأي العام من خلال مواقع التواصل الاجتماعي. لقد أثارت تدخلات الإمارات العربية المتحدة في مواطن بعيدة جداً عن الخليج حالة من الفوضى في كل أرجاء منطقة الشرق الأوسط.
ولطالما تكبدت تركيا بسبب كل ذلك. فما الذي يدفع فهداً ديدنه تصيد الإسلام السياسي والقضاء عليه قضاء مبرماً نحو تغيير جلده؟ إنه سؤال تصعب الإجابة عليه بشكل مقنع.
ليست هذه هي المحاولة الأولى لإصلاح ذات البين بهذا الشكل، فقد بادرت الإمارات العربية المتحدة بشيء مشابه تجاه أنقرة عندما ظنت أن هيلاري كلينتون توشك أن تصبح رئيساً للولايات المتحدة. ثم حينما فاز ترامب تخلت مباشرة عن مبادرتها. إنها البراغماتية، وليس التغير المبدئي في المشاعر، هو الذي سبب هذا التراجع الكامل في سياسة أبوظبي الخارجية. والمتشككون في أنقرة لديهم كل الحق في توخي الحذر.
ومع ذلك فقد يتحقق ذلك، فطوفان الإشارات القادمة من أبوظبي باتجاه أردوغان وتركيا يسري في الأغلب عبر المنتديات الخاصة، والرسالة المتضمنة فيه واحدة وثابتة، حتى لو لم تكن تصدقها.
إعادة تقييم استراتيجية
طبقاً لما يقوله أشخاص على معرف بهذه المحادثات، يزعم كبار المسؤولين الإماراتيين بأنهم يجرون “إعادة تقييم استراتيجية” للسياسة الخارجية.
يبدأ الأمر مع بايدن. فقد لاحظت الإمارات العربية المتحدة سمتين لعلاقتها المتغيرة مع واشنطن منذ وصول إدارته إلى السلطة. أما الأولى فهي الرسالة الدائمة والثابتة من الإدارة الجديدة بضرورة خفض تصعيد التوترات في الشرق الأوسط. وأما الثانية فتتعلق بتقلب السياسة الخارجية الأمريكية.
كان ذلك واضحاً وضوح الشمس في عهد ترامب عندما رفض قصف طهران بعد أن أرسلت إيران ووكلاؤها في العراق طائرات مسيرة لضرب وتخريب مرافق النفط السعودية، مما نجم عنه لفترة من الوقت خفض الإنتاج بمعدل النصف. تلك كانت اللحظة التي شعرت فيها المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة بأنهما باتتا بدون حماية المظلة العسكرية الأمريكية.
ويزعمون بالإضافة إلى ذلك أن الإمارات العربية المتحدة أجرت تقييماً معمقاً لما أنجزته بالفعل. ما من شك في أن تدخلاتها أثخنت جماعة الإخوان المسلمين كقوة سياسية في مصر وتونس واليمن وسوريا وجزئياً في ليبيا، ولكن تكلفة الجهاد العلماني الذي تقوم به الإمارات العربية المتحدة كانت ضخمة جداً.
فثلاثة من هذه البلدان باتت حطاماً ينبعث منه الدخان، بينما البلدان الآخران، مصر وتونس، كلاهما مفلس تقريباً. فما الذي جناه محمد بن زايد من مليارات الدولارات التي استثمرها في الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي؟
يبدو إذن أن السياسة الجديدة تعتمد نشر النفوذ عبر التعاون الاقتصادي بدلاً من التدخل العسكري والتنافس السياسي.
الصدع في العلاقات السعودية الإماراتية
هم لا يقولون ذلك، ولكن حينما يُسألون، تشعر بوجود برود تجاه الرياض، حتى أن أحد المبعوثين زعم بأن الإمارات العربية المتحدة أخرت انسحابها من اليمن عاماً واحداً لكي تعطي فرصة للمملكة العربية السعودية لإنهاء الحرب مع الحوثيين، ولكن بات واضحاً أن اليمن غدا مصدر توتر كبير بين الحليفين العسكريين.
أعلنت المملكة العربية السعودية مؤخراً عن سلسلة من التحركات لإضعاف أبوظبي، كان آخرها سحب قناة العربية والشركة الإعلامية الأم لها إم بي سي من دبي، كما وضعت السعودية قيوداً على البضائع المعفية من الضرائب الواردة من منطقة التجارة الحرة في الإمارات، وأصرت إضافة إلى ذلك على أن تنقل الشركات الأجنبية متعددة الجنسيات مقراتها الرئيسية إلى الرياض بدلاً من دبي. وهناك من التنافس بين الأشقاء أكثر بكثير مما يوجد من العلاقات الأخوية بين البلدين الخليجيين هذه الأيام.
في العلن يومئ المحللون السياسيون المجازون من قبل الإمارات العربية المتحدة إلى مجموعة مختلفة من الأولويات الإقليمية. ومن ذلك ما غرد به الأكاديمي والمفكر السياسي عبد الخالق عبدالله من أن الرسالة الأساسية الواردة من واشنطن مفادها أن الولايات المتحدة لن تدافع عن الخليج. وأضاف في تغريدته: “دول الخليج العربي على مفترق طريق: كيف ينبغي أن تتكيف لمرحلة ما بعد أمريكا في الخليج؟”.
ثم أجاب على تغريدته تلك بتغريدة أخرى بعد بضعة أيام قائلاً: “هذه هي البلدان التي قررت الإمارات العربية المتحدة منحها الأولوية في الاستثمار وفي تنمية العلاقات التجارية معها خلال السنوات العشر القادمة: الهند، أندونيسيا، تركيا، كينيا، كوريا الجنوبية، أثيوبيا، إسرائيل، بريطانيا.”
من هم أبرز الغائبين عن القائمة؟ إنهما المملكة العربية السعودية ومصر، وكلاهما كانتا أقرب الحلفاء إلى الإمارات في عام 2013.
اتفاقيات أبراهام تفقد قيمتها
لم تكن أبوظبي الموقع الوحيد على اتفاقيات أبراهام التي أعادت تقدير قيمة الكتلة المؤيدة للولايات المتحدة في الخليج. بعد عام واحد من التوقيع عليها في واشنطن ها هي اتفاقيات أبراهام تفقد بريقها. قبل عام من الآن بدوا كما لو أن الرياح تجري كما يشتهون. لقد كان زواجاً بين الأدمغة والعضلات، القوة العسكرية والتفوق التكنولوجي لدى إسرائيل مقابل الدولارات الخليجية.
كانت تلك محاولة لتجاوز الصراع الفلسطيني، دون الحاجة إلى أمور مرهقة ومضيعة للوقت مثل المفاوضات والانتخابات أو التفويض الشعبي. كانت الاتفاقيات حلاً مفروضاً من أعلى – سياسة فرض الأمر واقع، الذي لا مفر أمام الجماهير العربية من التعايش معه.
ولكن مثلها مثل المدن الكبرى في السعودية، أقيمت الاتفاقيات على رمال متحركة.
لقد شابها عيبان أساسيان. أما الأول فهو اعتمادهم على الزعماء بصفتهم الفردية وليس على الدول، فقد اجتمعوا بادئ ذي بدء سراً كما يفعل سائقوهم. هذا يعني أنه عندما يخرج لاعبان أساسيان من الصورة – ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو – فإن المشروع ذاته يفقد الرعاية والزخم.
وأما المشكلة الثانية فهي أنهم جميعاً كانوا يركزون على العلاقة بين دول المنطقة والولايات المتحدة، ولم يتطرقوا للمشاكل الأساسية في العلاقات بين اللاعبين المهمين أنفسهم داخل الإقليم.
كان دافع الإمارات العربية المتحدة من التقرب من إسرائيل هو تقوية علاقتها بواشنطن. لطالما كان الاعتراف بإسرائيل وسيلة لتحقيق غاية ولم يكن الغاية بذاتها.
بالنسبة لإسرائيل، في المقابل، كانت اتفاقيات أبراهام تتعلق بتعزيز أمنها هي من خلال زيادة نفوذها في الإقليم. وبذلك تكون قد أخطأت في قراءة النوايا العربية إذ اعتبرت التطبيع شبكة أمان، من الناحيتين العسكرية والدبلوماسية، لضمان استمرار وجودها هي.
كتب زفي باريل في هآريتز يقول: “ما وقع من تبدل في العلاقات الدولية يتطلب من إسرائيل إعادة النظر في موقعها في الاصطفاف الذي تشكل حديثاً. لقد بدأت تتهاوى الفكرة التي تقول بوجود كتلة مؤيدة للولايات المتحدة توفر لإسرائيل شبكة أمان عسكرية ودبلوماسية وتعمل إلى جانبها ضمن تحالف غير رسمي في مواجهة إيران.”
إعادة الاصطفاف الإقليمي
لم تكتف الولايات المتحدة بتوفير الجزرات والعصي اللازمة لإجبار الدول مثل السودان على الانضمام إلى الاتفاقيات مقابل إزالة اسمه من قائمة الدول الإرهابية. كان تلك هي الغاية من الاتفاقيات نفسها.
ما لبث الإماراتيون أن رأوا ملامح عالم ما بعد النفط. مازال ولي العهد السعودي محمد بن سلمان بحاجة إلى تكييف نفسه مع الغياب العسكري للولايات المتحدة. ربما يفعل ذلك الآن أما وقد سحب بايدن صواريخ الباتريوت من المملكة ورفع الحظر الذي فرضه اثنان من أسلافه على الوثائق السرية التي تزعم وجود ارتباطات للحكومة السعودية مع اثنين من خاطفي الحادي عشر من سبتمبر.
على النقيض من محمد بن زايد، يحمل محمد بن سلمان أحقاداً شخصية. لا يستطيع مثلاً مسامحة أردوغان على الدور الذي مارسه في إبقاء جريمة قتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي على الأجندة في واشنطن. فمن خلال ذلك تمكن أردوغان من إلحاق ضرر جسيم بسمعة محمد بن سلمان الدولية، الأمر الذي باتت معه زيارة الملك السعودي القادم إلى لندن أو الولايات المتحدة من المستحيلات.
على الرغم من سعيه الدؤوب للظهور بمظهر الإصلاحي، إلا أن نفسية محمد بن سلمان ماتزال متجذرة في ماضيه البدوي. فبوصفه الملك القادم تجده يعتبر شعبه، ويعاملهم كما لو كانوا، من ممتلكاته، فهو سيدهم وهو ولي أمرهم. والصفقات مع الدول الأخرى لا يبرمها سواه. وهو الذي يقرر ما إذا كانت المملكة ستعترف بإسرائيل أم لا، وما إذا كان، كما هو الحال الآن، سيتوجه إلى إسرائيل لتزوده بأنظمة دفاع صاروخية.
على الرغم من أن كل هذه التحركات هشة ويمكن بطبيعة الحال التراجع عنها، أخذاً بالاعتبار أنها مدفوعة بأحداث جرت خارج المنطقة وليس من داخلها، فقد نرى ضوءاً في نهاية النفق، النفق المظلم للتدخلات الدائمة. إذا كان بإمكان اللاعبين الإقليميين أنفسهم إقامة علاقات معقولة فيما بينهم – وليس مطلوباً أكثر من ذلك – فلن يعتمد الاستقرار على مجموعة صغيرة من الطغاة.
تنزع العلاقات بين القوى الإقليمية إلى تمثيل مصالح الدول أكثر مما تمثل المصالح الشخصية للزعماء، وهذا بحد ذاته يعتبر تقدماً فيما لو أثمر على أرض الواقع.
يحسن بقرار محمد بن زايد إعادة تقييم سياسته الخارجية أن يكون قراراً حقيقياً وليس مجرد مراوغة مؤقتة، وهو محق في إعادة تقييم سياسته الخارجية لأنها كانت كارثية ومجرد هدر هائل لأمواله، نجم عنها إضعاف دول كانت قوية، مثل مصر، وتدفق ضخم للاجئين.
استغرق الوصول إلى هذه النتيجة ثمانية أعوام، ولو تكللت فعلا بالنجاح فإنها ستمثل فرصة حقيقية لإعادة تشكيل الشرق الأوسط ما بعد أمريكا.