نشر موقع “ميدل إيست آي” البريطاني فيلما وثائقيا هو الأول من نوعه عن ثورة الخامس والعشرين من يناير بعنوان “المنفيون، قصة جيل” لتجسيد التقلبات والتغييرات التي حدثت لأبناء ثورة يناير في مصر على مدار العقد الماضي وكيف تحول كثير من رموز الثورة إلى غرباء في المنفى.
الفيلم استعرض حكاية خمسة شباب، كنت واحدا منهم، بما فيها من تناقضات وأفكار مختلفة، وهو ما عبرت عنه بشدة تعبيرات الوجه الخاصة بكل شخصية وعكسته ببراعة كاميرا مخرج الفيلم حسام سرحان وركز عليه منتج الفيلم خالد شلبي وكلاهما من أبناء ثورة الخامس والعشرين من يناير.
بكاء، واعتراف بالأخطاء، واستحضار لروح الثورة، وحزن على انقسامات ما بعد تنحي مبارك، وحديث عن صدمة مذبحة رابعة وما خلفه الانقلاب من آثار نفسية على الجميع وصولا إلى الهروب من الوطن والحنين المستمر لمصر بما فيها ومن فيها، فالجسد خرج من مصر ولكن الروح لا تزال تسكنها كما قال وليد عبد الرؤوف أحد الشباب المشاركين في الفيلم، ولكن الجميع أجمع على حقيقة واحدة وهي عدم الندم على المشاركة في الثورة ولو عاد بهم الزمان لشاركوا مع محاولات لتفادي أخطاء الماضي.
عرض فيلم المنفيون بالتزامن مع الذكرى الثامنة لمذبحة رابعة العدوية هو قرار صائب وتوقيت رائع، أرفع فيه القبعة للقائمين عليه، تعليقات المتابعين وجدتها إيجابية إلى حد كبير مع الاعتراف بكم الحزن والشجون التي أثارها فيلم المنفيون في قلوب وعقول كل من شارك في الثورة ولكنه تجديد للأمل الكامن في النفوس ولو حاولوا قتله وإخماده بالبطش والقتل والسجن والتنكيل.
“أنا بشوف كوابيس”، “كل واحد فينا بيعاني من أمراض نفسية”.
عبارات صادمة ولكنها تعبير عما وصل إليه قطاع كبير من جيل يناير، كان هذا هو ملخص الحال عند الحديث عن مذبحة رابعة على لسان بعض المشاركين في فيلم المنفيون، وهو ما يعرف بمتلازمة أعراض ما بعد الصدمة، البكاء دون سبب، والتوتر الشديد، الاكئتاب والانهيار السريع وعدم النوم بشكل جيد، كلها أعراض يعاني منها هذا الجيل وتصل ذروتها عند الكثيرين كلما اقترب الرابع عشر من آب (اغسطس) من كل عام، ذكرى المذبحة.
الرابع عشر من شهر آب (أغسطس) من كل عام، تتجدد الذكرى ويستمر الألم وتنتشر راحة الدماء على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي.. كيف لا وهي ذكرى أبشع مذبحة في التاريخ الحديث والتي أعاد بها عسكر مصر الذاكرة إلى مذابح الصرب في سربرنيتسا وجرائم انقلاب الأرجنتين وتركيا في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي.
مذبحة رابعة، التي لم ينجو منها إلا من مات فيها والتي سنظل نذكرها بصرخة ذلك الفتى الذي صار رجلا “إصحي يا ماما بالله عليكي”، سيظل صوت الإنذار المستمر مع صوت أحد مساعدي السيسي وهو يقول في مكبرات الصوت بشكل مفزع “عملية فض الاعتصام تتم بقرار من النيابة العامة” شاهدا على قتل المئات وحرق الجثث.
ثمان سنوات ولم تجف الدماء ولم يتوقف القاتل عن جرائمه، يقولون إن لعنة الدماء قد أصابت مصر.. كيف لا وقد ذاقت البلاد الظلم والقهر والبطش والحبس والتنكيل والفقر كما لم يصبها من قبل!
في الذكرى الثامنة للمذبحة لا زال هناك من يكتب عن رابعة ويتذكر ضحاياها ويقف احتراما لصمودها ويتحدث بفخر عن مشاركته فيها، ولا زال هناك أشباه الرجال وعديموا الإنسانية ممن رقصوا على الدماء وفرحوا بمشاهد القتل وباركوا حرق الجثث..
تخيل معي عزيزي القارئ أن النظام المصري قد أمر أذرعه الإعلامية بعقد ندوة في مقر صحيفة اليوم السابع استضافوا فيها عددا من النساء لا أعرف من هن ولا من أين جاؤوا بهن ليتحدثوا عن ذويهم أو شهدائهم الذي قتلوا يوم الفض ولا أدري أي شهداء وأي قتلى فلم نعرف قتلى يوم المذبحة إلا أسماء البلتاجي وأحمد عمار ورفقائهم.
ذاكرة المظلوم هي أقوى ذاكرة على وجه الأرض، فالمظلوم لا ينسى وجه من ظلمه ولو مرت سنوات عديدة، فذكروا العالم بوجه الظالم، انشروا صور الضحايا وانشروا معها صور من أصدر الأمر بقتلهم. وترحموا على من قتلوا غدرا في رابعة والنهضة.