أحذر من بعض الأصوات النشاز التى صارت تتردد فى الساحة المصرية بعد وقوع الغارات الإسرائيلية على غزة. لا أعرف ما إذا كانت الدعوات التى أطلقتها بمثابة اجتهادات حسنة النية، أم أنها رسائل منزوعة البراءة، من ذلك القبيل الذى يتردد بوضوح فى الساحة الإعلامية المصرية طوال الشهور التى خلت. أكاد أحصر تلك الأصوات فى فئات أربع ــ حتى الآن على الأقل ــ تتعامل كل منها مع المشهد من منظور مختلف. هذه الفئات هى:
دعاة التهويل، الذين يوحون لنا بأن شبح الحرب ضد إسرائيل بات ماثلا فى الأفق، وان الحاصل فى سيناء والغارات التى استهدفت غزة، والصواريخ التى اطلقت من القطاع صوب الداخل الإسرائيلى، إضافة إلى سحب السفير المصرى من تل أبيب. هذه كلها مقدمات تمهد لإلغاء اتفاقية السلام مع إسرائيل، وتفتح الباب لرسائل التصعيد التى ستنتهى بالدخول فى المواجهة العسكرية، التى ترتبط فى الأذهان بذكريات مرة وكئيبة مسطورة فى صفحات مجللة بالدم ومسكونة بالاشلاء. ولا يقف الأمر عند ذلك الحد، وإنما لا يخلو «السيناريو» من إشارات صريحة إلى تأليب الرأى العام على الفلسطينيين الذى يتهمون بالمسئولية عن «توريط» مصر فى الحرب وتحميلها مسئولية دفع فاتورة «التهور» الفلسطينى.
دعاة التهوين، الذين يدعون ان المسألة ليست سوى تمثيلية متفق عليها بين الأطراف المعنية، خصوصا الأجهزة الأمنية المصرية والإسرائيلية. فزيارة رئيس الوزراء المصرى لغزة لم تكن للتضامن ولا للإعراب عن الغضب المصرى، ولكنها «لقطة» مرتبة سلفا مع المخابرات الإسرائيلية من خلال الاتصالات التى اتفق فيها على ان توقف الغارات بعض الوقت على غزة، لحين انتهاء زيارة رئيس الوزراء المصرى (وهو ما لم يحدث). ثم ان السفير الإسرائيلى المذكور آثر ان يقضى يومين أو ثلاثة فى تل أبيب حتى تمر العاصفة وتهدأ نفوس المصريين الغاضين، ثم يعود إلى القاهرة مرة أخرى. ويتجاهل هذا الخطاب الإشارة إلى خطوة سحب السفير المصرى لدى إسرائيل، ليتم حبك فكرة التمثيلية التى يتحدثون عنها واستهدفت فى رأيهم تلميع صورة الرئيس مرسى وجماعته، عن طريق تصويرهم شجعانا لا يترددون فى تحدى إسرائيل ومنازلتها سياسيا على الأقل. فى حين أن الأمر ليس سوى «ملعوب» سابق الإعداد والتجهيز.
المزايدون، وهم الذين يقللون من شأن الموقف المصرى، ويقولون إن ما فعلته مصر ليس كافيا، وان سحب السفير المعين فى تل أبيب لا دلالة له، لان الرئيس السابق حسنى مبارك فعلها من قبل، وهو الكنز الاستراتيجى لإسرائيل. ومن ثم فانهم يطالبون بما هو أبعد وأقوى أثرا. يطالبون مثلا بمعسكرات لتدريب شباب المتطوعين وفتح الحدود مع إسرائيل لتمكين «المجاهدين» من القيام بمهمتهم فى تحرير فلسطين. وقد قرأت منشورا وزعه بعض هؤلاء قالوا فيه إن الدكتور يوسف القرضاوى أفتى بضرورة مساندة الجيش السورى الحر وتزويده بالسلاح والعتاد والمال، فلماذا لا يصدر فتوى مماثلة لمساندة «إخوانه» فى غزة تدعو إلى فتح باب التطوع لتحرير فلسطين وإقامة المعسكرات لاستيعاب المتطوعين قبل انطلاقهم لأداء الواجب المقدس.
المثبطون، وهم الذين ما برحوا يقرعون الفلسطينيين ويبكتونهم لأنهم اطلقوا بضعة صواريخ لم تصب هدفا يذكر، الأمر الذى تصيدته إسرائيل فاستعرضت عضلاتها واطلقت غاراتها التى أشاعت الموت والخراب فى القطاع، وهو ما يعنى أن ما أقدمت عليه المقاومة كان حماقة ومغامرة لا لزوم لها، دفع الفلسطينيون ثمنا باهظا لها. وفى رأيهم انه فى ظل الخلل الراهن فى موازين القوة المؤيدة من قبل الإدارة الأمريكية فإن مثل هذه المغامرات ينبغى أن تتوقف صيانة للدماء الفلسطينية. بالتالى فإن «الحكمة» تقتضى تكثيف الجهود للتوصل إلى حل سلمى، والاحتشاد وراء مطلب السلطة ضم فلسطين إلى الأمم المتحدة كعضو مراقب، أملا فى تحقيق الممكن من خلال الاشتباك السياسى.
أصحاب تلك الأصوات لم يظهروا فجأة فى مصر، لأن الساحة تعج بهم وبغيرهم منذ سقوط النظام السابق. واستعاد الجميع حقهم فى الكلام بصوت عال وبجرأة يحسدون عليها. وكان ارتفاع تلك الأصوات ضمن الثمن الذين يتعين دفعه فى الممارسة الديمقراطية التى يفترض أن تكفل للجميع حقهم فى التعبير. العقلاء منهم والسفهاء والمغرضون منهم والأبرياء. وهو أمر يمكن القبول به واحتماله طالما تعاملت وسائل الإعلام بحياد ونزاهة مع كل أصحاب الرأى بمختلف اتجاهاتهم. وتلك مرحلة لم نبلغها بعد، وكانت النتيجة اننا افتقدنا الحضور الواجب للذين يحسنون الظن ويعتبرون أن الموقف المصرى اتسم بالحزم المسئول. وانه وجه رسالة ذات مغزى للإسرائيليين. وان هناك خطوات أخرى يمكن اتخاذها لممارسة الضغط السياسى على القيادة الإسرائيلية (مثل تجميد الاتفاقات المعقودة بين البلدين، وفتح معبر رفح لتيسير مرور أصحاب المصالح وتوفير مستلزمات المعيشة ومتطلبات الإعمار).
إننا فى الوقت الراهن أشد ما نكون حاجة إلى أصوات التشجيع النقدى والنزيه. أما حين تتعالى أصوات التهليل والتهوين والمزايدة والتثبيط وتتراجع أصوات الأولين، فذلك يعنى أن ثمة خطأ فينا يحتاج إلى علاج.