كتب-علي حسن باكير:
قبل عدّة أشهر فقط، كان النظام المصري مشغولاً بالتصعيد مع تركيا في ليبيا في موقف أثار استغراب المراقبين على اعتبار أنّ التهديد للأمن القومي المصري كان ينبع من الجنوب في الوقت الذي كان فيه التصعيد الكلامي للحكومة باتجاه الشمال عبر المتوسط والتسخين العسكري باتجاه الغرب أي ليبيا في موقف يأبى التحليل المنطقي للأحداث استساغته.
وبغض النظر عن الدوافع المصرية آنذاك، وعمّا إذا كان هذا الأمر مصطنعاً ويهدف إلى إرضاء بعض الحلفاء في الخليج والاتحاد الأوروبي، أو حقيقياً ونابعاً من حسابات تقول إنّه كان لا يزال هناك فرصة متاحة للقاهرة لعكس التحوّلات التي أحدثها الدعم التركي لحكومة الوفاق الوطني المعترف بها دولياً، فإنّ الأمور تتجه على ما يبدو الآن في المسار الصحيح في ما يتعلق بأولويات الأمن القومي المصري. يبدو ذلك جليّاً من خلال تركيز الحكومة المصرية على أزمة النيل والمشكلة مع إثيوبيا والعلاقات مع السودان كأولوية، وهو ما يمكن رصده من خلال كم التصريحات الرسمية والتحرّكات الرسميّة الأخيرة في هذا الملف.
وفيما يحاول بعض المؤدلجين تفسير التطورات الجارية في المسار التركي-المصري على أنّه تراجع تركي أمام القاهرة، يغفل هؤلاء أو يتغاضون بشكل مقصود عن الخطوات التي اتّبعتها القاهرة مؤخراً والتي غيّرت فيها مواقف سابقة لها في ملفات مهمّة كشرق البحر المتوسط والأزمة الليبية في ظل التحوّلات الإقليمية والدولية الجارية بعد وصول بايدن إلى السلطة في أمريكا. لقد قرّبت هذه المواقف القاهرة إلى أنقرة، وهو الأمر الذي قابله الجانب التركي بالمثل من خلال التصريحات العلنية للمسؤولين لا سيما وزيري الخارجية والدفاع إلى جانب المتحدّث باسم رئاسة الجمهورية.
وفيما كان الفارق في الأسلوب والآلية المتّبعة واضحاً بين الطرفين لناحية اعتماد تركيا على الدبلوماسية العلنيّة ولجوء مصر إلى التحرّكات غير العلنية، فقد أتاحت هذه الخطوات للجانبين المصري والتركي فتح قنوات إتصال لمفاوضات استكشافية تركّز على المصالح المشتركة للبلدين وعلى معادلة ربح-ربح متبادل، وسمحت بإطلاق عملية إجراءات بناء الثقة وكان من بينها تهدئة الخطاب الرسمي والحملات المتبادلة واعتماد دبلوماسية الأبواب الخلفية والمسار الاستخباراتي الذي يعتبر الأكثر فعالية في الحالة المصريّة.
لقد أثار خبر طلب السلطات التركية من قنوات المعارضة المصرية في إسطنبول ضبط خطّها التحريري بما يتوافق مع معايير الاحتراف والقوانين التركية في هذا التوقيت بالتحديد حالة من الهلع في أوساط بعض المعارضين تقابلها حالة من الشماتة والتعجرف من بعض فئات المعسكر الآخر أثناء قراءة الطرفين الخاطئة لما يجري على الأرض. وإن كنا أشرنا إلى الكيفية التي يفكر بها بعض من هو في الدائرة الثانية التي تتغافل عن أنّ خطوة من هذا النوع تتطلب كذلك خطوة مقابلة من النظام المصري إذا كان هناك نيّة لإنجاح المفاوضات، فإنّ عدداً من المنتمين إلى الدائرتين بدأ بالحديث عن بيع تركيا للمعارضة المصرية وجعلها كبش فداء ورميها تحت عجلات الباص وتسليم المعارضين إلى النظام المصري… الخ، من السناريوهات السوداء.
في حقيقة الأمر يجب الإشارة إلى عدد من الملاحظات على هذه النقاط بالتحديد:
أولا ـ لم يسبق لتركيا أن سلّمت عمداً قيادات من أي معارضة إلى أي بلد خاصة إذا كان من الواضح أنّ هناك ملفّات كيديّة معدّة له، كما أنّ القانون التركي يمنع تسليم معارضين خاصة إذا كان هناك مخاطر على حياتهم أو إمكانية لتعذيبهم أو قتلهم أو إعدامهم حتى لو أرادت السلطات التركية تسليمهم. وإذا ما سلّمنا جدلاً لغاية النقاش الافتراضي فقط بأنّ تركيا ستسلم المعارضين المصريين إلى النظام، فمن قال إنّ الأخير لديه مصلحة في استلام هؤلاء في الظروف الدولية الحالية في ظل تعرضّه للضغوط للإفراج عمّا لديه من معتقلين؟
ثانيا ـ بالرغم من المؤشرات الإيجابية لدى الطرفين، فلا يجب أن نبالغ في تقييم المخرجات المتوقعة، حالياً على الأقل، بانتظار إنجاز المرحلة الأولى من التفاوض واختبار الطرفين لبعضهما البعض. لا أعتقد كذلك أنّ الجانبين سيشرعان في التفاوض حول الملفات الإشكالية أو الخلافية الكبرى بقدر ما سيركّزان على المواقف والمصالح المشتركة المحتملة لهما في مثل هذا التقارب شرق البحر المتوسط وفي ليبيا، إلاّ إذا كان الهدف إفشال المفاوضات، وعندها لا يوجد هناك ما يتم خشيته أصلاً.
عندما تنازل النظام المصري عن حق الدولة المصريّة والشعب المصري في بعض الجزر والمياه، تمّ انتقاده بشكل شديد، وهذا يفترض أن يلقى تحقيق مصلحة الدولة المصرية والشعب المصري شرق المتوسط وفي ليبيا من خلال اتفاق مع تركيا إشادة حتى وإن جاء من قبل نظام أو حكومة لا يتفق الجميع على شرعيتها. فضلاً عن ذلك، فإن من مصلحة تركيا والمعارضة كذلك تخليص مصر من الارتهان إلى سياسات بعض الدول الصغيرة التي تمارس نفوذها وتضغط باتجاه إبعاد مصر كدولة عن مكانها الطبيعي في الإقليم، والتواصل مع تركيا يخدم ذلك.
ثالثا ـ يجب الانتباه جيداً إلى التحولات الجارية على المستوى الدولي والإقليمي لأنّها تتطلّب مرونة وذكاءً في التعامل مع الأحداث وهو أمر يشمل الجميع دون استثناء. التوصل إلى اتفاق مفترض مع مصر حول مصالح الدولتين والشعبين لا يفترض أنّه لن يكون هناك خلافات في المواقف. سيكون هناك بالطبع، وسيكون هناك من له مصلحة في الإقليم في ضرب الطرفين والمعارضة المصرية كذلك ببعضهم البعض. ليس من الصعب ملاحظة ذلك من خلال الأخبار الكاذبة التي تمّ بثّها خلال اليومين الماضيين على بعض القنوات والمنصّات الإقليمية.
إذا كان هناك تخوّف (غير مبرر برأيي) في هذه المرحلة من قبل المعارضة المصرية في تركيا من التطورات الجارية، فإن من حقها بل وواجبها أن تتواصل بشكل مباشر مع السلطات التركية لاستبيان الوضع بدلاً من الحفلة العلنيّة التي تجري والتحليلات التي تُرمى يمنة ويسرة خاصّة أنّ المفاوضات قد تعود خلال المرحلة المقبلة إلى دبلوماسية الأبواب الخلفية منعاً من تقويضها المبكّر.