تعلمنا في ثورة يناير المعنى الحقيقي للحرية وعشنا بها لفترات مجنونة، كاد المصريون أن يفقدوا وعيهم من فرط جمال الحرية وأجوائها، لقد كانت لحظات لا تنسى وأنت تتحدث في كل شيء وبأي مكان وعلى الملأ، باتت الشوارع محفورا على جدرانها أفكارا شتى، وكل فكرة تضاد جارتها، دون أن تنال منها وتمحوها.
كانت الثورة بداية، ولم تأتِ النهاية بعد كما يرى كثيرون الآن بعد عقد كامل على مرورها، فلماذا تكون انتهت وهي بالأساس لم تكتمل، وكيف تكتمل ومن آمنوا بها يعانون من ألم التشتت، حيث لم يعد لجيل يناير مفتاح العودة، ضاع منهم في زحام الفرحة بتنحي مبارك وزوال حكمه، ولذلك فالنهاية مفتوحة، والباب موصد ينتظر مفتاحا عليه شعارات يناير «عيش، حرية، عدالة اجتماعية»، ولأن الثورة فكرة ولكل فكرة مؤمنون بها، فنسمات يناير وشعاراتها حتما ستعود مع جيل جديد يؤمن بالثورة ومبادئها، وقد يتعلم من أخطاء سابقيه وما صاروا إليه مرغمين.
أداة جديدة صنعت الفارق
وفي سياق مواز للحرية، دعني أذهب بك إلى حيث أعمل، وكيف أعمل، سأتحدث عن رصد الثورة، وشباب لم يستطع أحد أن يعرقل حلمهم، فانطلقوا بكل فخر لمواجهة آلات إعلامية شعارها الفساد والتغييب وتزييف وعي المصريين، اقترب الشباب إلى أماكنهم وإلى حيث ينتمون، واكتشفوا نظاما جديدا في الإعلام والصحافة، مستغلين أداة جديدة لم يتعرف الكثيرون على خصائصها، ألا وهي السوشيال ميديا.
أتاحت السوشيال ميديا لشباب الثورة أن يحدث الفارق في كل مناسبة، وأن يشارك الجمهور في صناعة الأحداث لا في قراءتها وتلقيها فقط، الحروف الثلاثة المكونة لرصد، كانت بها خلاصة القول والفصل، فكانت ترمز إلي: «راقب» ما يدور حولك، و «صور» كل ما تراه وتستطيع عدستك أن تلتقطه، و «دون» كل شيء يحدث في محيطك حتى لا يختفي وتكون شاهدا عليه وناشرا له في منصة إعلامية تعبر عنك.
فرص وتحديات
التغيير الاستراتيجي في الإعلام الذي قادته شبكة رصد منذ الثورة، أعطاها فرصا ووضع أمامها تحديات، فكانت الفرصة كبيرة في مساحة فارغة لم يخترقها أحد أو يبدأ فيها، لتكون هي أول منصة إخبارية قائمة عبر منصات السوشيال ميديا في الوطن العربي، هذه التحديات كان أبرزها الإمكانيات وطبيعة التفاعل عبر المنصة من الجمهور، ولعل التحدي الأكبر كان في التأثير، ولكن الثورة جعلته مضاعفا وولدت رصد من رحمها، لذا فالثورة ورصد لهما أجندة واحدة.
عاشت رصد بين شباب الثورة وانطلقت بأحلامهم ونقلتها للعالم أجمع وبلغات عدة، فكانت لديها صفحات ناطقة بالإنجليزية والفرنسية والتركية، علاوة على نماذج مشابهة للتجربة الفريدة في الدول العربية، هذا الحجم الكبير من الانتشار كان في العام الأول والثاني فقط، ولا تتفاجأ حين أقول لك إن هذا العمل الكبير والضخم الذي تم إنجازه في وقت قياسي ويصعب على أي مؤسسة تمتلك الملايين أن تنفذه أو تمتلكه، كان عبر شباب متطوعين لا يتقاضون أي رواتب، ولكنهم اجتمعوا على حلم وهدف وفكرة آمنوا بها.
جنود مجهولون
التطوع في العمل الصحفي مفهوم غير متوفر في مصر بل ويمكنني أن أقول وفي العالم كله، فلا أحد يعمل دون مقابل من أجل مؤسسة صحفية وينقل لها معلومات وصورا تخص الأحداث، بل ويميزها بسرعتها ويعزز تواجدها ومنافستها لتكون هي الرائدة في مواجهة المؤسسات الحكومية والخاصة والتي تصرف ملايين الجنيهات شهريا.
«الله، الوطن، رصد» الشعار الثوري الذي ضحى له مئات من المراسلين بوقتهم ومالهم في كافة ربوع الوطن وخارجه، وأتحدث هنا بفخر كبير عن مئات المراسلين المتطوعين ومجموعات العمل في قطاعات الجمهورية المختلفة ويمكن لي أن أذكرها كما كانت تسميتها داخل رصد حينها، «القاهرة الكبرى والإسكندرية ومعها محافظتي البحيرة ومطروح، وقطاع الدلتا بمحافظاته الست (المنوفية، الغربية، الدقهلية، كفر الشيخ، دمياط، الشرقية)، وقطاعي شمال الصعيد وجنوبه، وأخيرا قطاع سيناء ومحافظات القناة».
من هنا كان التميز، ومن هنا كان للفكرة مخلصون، ساعدوها في تخطي صعوبة البدايات وأوصلوها لبر الأمان بتربعها وريادتها للصحافة والإعلام الجديد في مصر، باتت الأرقام تتحدث عن رصد، فاحتلت صدارة المؤسسات الإعلامية الإخبارية في 2012، وكانت تجربتها في تغطية الأحداث الكبرى مثل انتخابات الرئاسة واستفتاء الدستور واعتصام الاتحادية ثم رابعة والمظاهرات المنتشرة بكافة المحافظات في مختلف الأوقات، علامة فارقة في حسم المواجهة مع المنصات والمؤسسات الإعلامية من وكالات أنباء وقنوات تلفزيونية ومواقع إلكترونية وصحف قومية وخاصة وغيرها من أشكال الإعلام المترسخة لدى جمهور ما قبل السوشيال ميديا.
مراحل عدة تخطتها شبكة رصد، ولكن الأهم فيها أنها ظلت مستمرة لعقد كامل، ورغم خطورة العقبات والتحديات التي واجهتها رصد ومن انتمى إليها، نعم فالضريبة كانت كبيرة كما كانت ضريبة ثورة يناير كبيرة، توسعت رصد ووسعت مفاهيم العمل الصحفي في الوطن العربي وتربعت على عرش الإعلام الجديد الذي احتل صدارة اهتمام كافة المؤسسات والمستثمرين بالإعلام، ولكن ما كان يميز رصد هو أن سندها «الجمهور»، الذي يمثل جزءا لا يتجزأ من شعارها، فالإعلام يصنعه الجمهور.
مقال للصحفي عوض أبو حسين