عيش حرية عدالة اجتماعية، كانت هذه الهتافات الثلاثة هي أول ما صدع به الشباب المصري في مثل هذا اليوم منذ عشر سنوات.
حقا! مرت عشر سنوات، لا زلت أذكر هذا اليوم جيدا وكأنه البارحة، حشد قليل من الشباب لا يعرفون بعضهم، تجمعهم نظرات الخوف الممزوج بالحماسة، يوحدهم هذا القلق المختلط بالثقة في النصر، تربطهم لحظات الترقب والصمت الذي يسبق الانفجار، كل منهم يرى نفسه في الآخر يطمئنه إذ يقلق، يثبته إذ يتردد، يشجعه إذ يحبط.
كنت هناك ولم يتجاوز عمري الخامسة والعشرين عاما، تتسارع أنفاسي كلما اقترب الموعد، أهدأ كلما علا صوت الهتاف، لأطمئن نفسي كلما ازدادت الأعداد من حولي. رويدا رويدا بدأ الخوف يتبدل بالشجاعة، وحلت الثقة محل القلق، وازداد اليقين في أننا هنا نستطيع أن نفعلها، حتى اخترق هذا الهتاف آذان الحاضرين: “يسقط يسقط حسني مبارك”.. “الشعب يريد إسقاط النظام”، عندها أيقن ميدان التحرير ونحن معه أننا على موعد تاريخي مع أعظم ثمانية عشر يوما في تاريخ مصر.
هل يبكي الإنسان على ذكريات مر عليها عقد من الزمان؟ ولماذا؟
في كل مرة أكتب عن ثورة يناير وذكراها، تغلبني دموعي، وفي كل مرة أستضيف فيها ضيفا في الأستديو أو أجري مقابلة صحفية حول ذكرى الثورة، أشعر بنفسي هناك على هذا الرصيف البارد في صقيع يناير، بالقرب من ميدان عبد المنعم رياض أحد أهم مداخل ميدان التحرير. في كل مرة وفي كل عام نقترب فيه من يوم الخامس والعشرين من كانون الثاني/ يناير أجد نفسي أقلب في الصور، أتفحص الوجوه، أشاهد مقاطع الفيديو مرة تلو الأخرى، فأبكي تارة وأغضب تارة أخرى، أحزن تارة على مرارة الهزيمة وأفرح كثيرا أن منّ الله عليّ وشاركت في ثورة يناير.
جيل الشباب المصري الذي ولد في أواخر السبعينيات وبداية الثمانينيات من القرن الماضي، عاش ثلاثة عقود من عمره تحت بطش مبارك. كنا نلوم الأجيال الأكبر أنها عاشت مرارة ظلم حقبة جمال عبد الناصر ولم تتحرك ولم تنتفض ولم تثر. أذكر جيدا في كانون الأول/ ديسمبر 2010، بعد تزوير انتخابات مجلس الشعب بشكل فج لصالح الحزب الوطني، قابلت أحد قيادات جماعة الإخوان المسلمين وقلت له غاضبا: المشاركة في الانتخابات لم تعد تجدي نفعا، لا بد من بديل آخر.
عقد من الزمان، تغيرت فيها أمور كثيرة وتحولت فيه مواقف الكثيرين من أبناء يناير إلى النقيض تماما، ولكن هناك أيضا من لا زال على عهد الثورة الأول، يحييها في كل عام، يحكيها لأبنائه، يخاطب بها العالم الغربي بإعلامه وساسته. هناك من يصيبه الاكتئاب الشديد مع كل ذكرى ليناير، وهناك من ينعزل عن العالم أجمع في هذه الأيام، ولكن هناك أيضا من لا زال يكتب في كل عام “لساها ثورة يناير”.
لقد فعلناها مرة وأسقطنا حسني مبارك، أحد أعتى الطغاة في العالم العربي لثلاثة عقود، نعم حرمنا جمال مبارك من أن يكون وريثا لأبيه ليحكم البلاد ثلاثين عاما أخرى، يحق لمن شارك في يناير أن يفخر بذلك ويحكيه للعالم أجمع. كنا جزءا من لحظة تاريخية لم يتوقعها أحد، ويمكننا أن نكون جزءا من لحظة مشابهة لو تمسكنا بالأمل، وبقينا على عهدنا مع الثورة وأهدافها ومبادئها.
في حوار لي مع بعض رموز ثورة يناير ممن أصبح حالهم مثل حالي، وانتهى بهم المطاف كلاجئين سياسيين في المملكة المتحدة بعد عقد من الزمان على ثورة يناير، قال لي أحدهم إن إرث الثورة هو الأمل، وأن الشعب المصري ومن قبله النظام العسكري الحالي يعلم يقينا أن الثورة باتت حلا بديلا لدى الشعوب إذا ما جاءتها فرصة لذلك، وهذا يفسر حالة الاستنفار التي يفعلها النظام في كل ذكرى للثورة.
عشر سنوات ليست بالمدة الطويلة في عمر الثورات، فالثورة موجات وجولات نخسر بعضها ونكسب الأخرى، وما يقع على عاتقنا الآن أن نواجه محاولات النظام المستمرة لتشويه الثورة ووصفها بالمؤامرة، وبأن الثورة ما جاءت إلا لتهدم الدولة لا لتغير حالة الشعب المصري للأفضل.
بعد عشر سنوات من ثورة يناير، فليسمعها مني الجنرال عبد الفتاح السيسي: ثورة يناير منا ونحن منها، ولو عاد بنا الزمان لعدنا.
عربي 21