صفعة، فصرخة، فشرارة، فثورة، فربيع عربي قصير، ثم خريف مخيف أعقبه شتاء قارس ممتد لعقد من الزمان.
قصور لفظت ساكنيها، وشعوب أدبت حكامها، وأنظمة ديكتاتورية انهارت في غمضة عين، وأموال خليجية تدفقت على الجنرالات لتحول الأنهار الزرقاء إلى بحار من الدماء.
يمكنني أن أتوقف عن الكتابة الآن، وأختم هذا المقال، فتلك حكاية عقد من الزمان، بدأها الشاب التونسي محمد البوعزيزي الذي أشعل النار في نفسه وأشعل معها ثورات الربيع العربي في مثل هذه الأيام منذ عشر سنوات، ولكن هناك من أبى لشرارة الشعوب أن تبقى مشتعلة بوقود الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، فقرر أن يطفئها، ولكن هل نجحوا في ذلك.
الحقيقة أن ثورات الربيع العربي قد خسرت جولتها في العقد الفائت، نعم، يمكن القول إن محور الثورة المضادة قد نجح في تحويل النار التي أشعل بها البوعزيزي الثورة في قلوب الشعوب العربية، إلى نار تأكل الشعوب العربية بربيعها العربي ونخبتها السياسية ومطالبها العادلة.. هكذا تبدو الصورة في مصر والسودان والبحرين واليمن وسوريا وليبيا وحتى في الجزائر أيضا.
كنا نتندر دائما في أيام الثورة التونسية الأولى ونقول في مصر مقولة شهيرة “الإجابة تونس”، وكنا نعتبرها التجربة الملهمة لنا ولغيرنا من الشعوب العربية، وبعد عقد من الزمان لا زالت “الإجابة تونس” ولو على استحياء وعلى الرغم من أن بعض مواقف الرئيس التونسي الحالي قيس سعيد لا تبشر بالخير، إلا أنها النموذج الوحيد المتبقي من ثورات الربيع العربي، فلم تلوثها أموال السعودية والإمارات، ولم يخرج من جيشها جنرال انقلابي دموي مثل عبد الفتاح السيسي، ولم تغزها الإمارات والسعودية كما فعلتا في اليمن، ولم تنقسم إلى شرق وغرب كما فعلوا في ليبيا ولم تتحول إلى حرب أهلية ونظام فاشي يقصف شعبه بالبراميل المتفجرة كما فعل بشار الأسد في الشعب السوري.
في مصر خرجت الصحافة التابعة لنظام المخلوع الراحل حسني مبارك في مثل هذه الأيام بصورة مخلوع آخر هو بن علي في زيارة للبوعزيزي تحت مانشيت “الرئيس التونسي في زيارة للمتسبب في أحداث الشغب”، هكذا كانت الثورات في عقل ونفس إعلام الدولة العميقة والذي تحول معها إلى أداة في يد محور الثورة المضادة، أصبح الجميع يتحدث عن الثورة وكأنها تهمة، تحول الربيع العربي في هذا الإعلام إلى المؤامرة التي نسجتها هيلاري كلينتون وإدارة أوباما ضد استقرار المنطقة ولرسم خريطة شرق أوسط جديد، تحدثوا عن أن الولايات المتحدة الأمريكية وإدارة الديمقراطيين السابقة هي التي جاءت بجماعة الإخوان المسلمين للحكم في مصر وصعدت بالإسلام السياسي إلى سدة الحكم في المنطقة.
على مدار العشر سنوات الماضية، عمل محور الثورة المضادة على وأد الثورة في مهدها، وقتل مطالب الربيع العربي في نفوس الأجيال الجديدة في عالمنا العربي، شوهوا الثورة واعتقلوا رموزها وقتلوا الباقين ومنعوا من تبقى من السفر، حاولوا أكثر من مرة أن يصوروا الثورة بأنها كانت وراء الخراب الذي حل في سوريا وفي العراق، وبأنها هي التي دمرت اليمن السعيد وحولته إلى يمن تعيس بات يعد من أفقر دول العالم، باتت الثورة في قفص الاتهام وأصبح أبناؤها يتامى في أوطانهم يتعرضون لشتى أنواع القهر والقمع والتنكيل إذا ما تجرأ أحدهم أن يرفع صوته مرة أخرى مطالبا بالثورة أو على أقل تقدير مستذكرا أيامها الأولى بالخير.
الإجابة لا، لم تتحق، وأصبحت الشرطية التي صفعت البوعزيزي وباء ينتشر في بلدان الربيع العربي أسرع من انتشار وباء كورونا في عامنا الحالي، تفنن أبناء الثورة المضادة مدعومين بالجيش والشرطة في إذلال الشعوب وامتهان الكرامة الإنسانية، وهذا فقط ما يبقي الثورة في النفوس حية لا تنطفئ، أن مطالبها لم تتحقق بعد.
من بكوا عند سماعهم صرخات هذا الشاب التونسي “بن علي هرب، اتنفسوا الحرية” ومن استمع بأذنيه في قلب ميدان التحرير إلى عمر سليمان وهو يعلن تنحي مبارك، لا يمكنه أن يتخلى عن لحظة الانتصار هذه ولو مرت عقود من الزمان وليس عقدا واحدا.
عربي 21