يناسبه تماما وصف «السبت الأسود». إذ نمنا في الليل محزونين وصحونا مفجوعين. حتى صار الأفق مجللا بالدم ولم تر أعيننا في الحالين سوى صور الأشلاء ومشهد الجنازات، وما سمعت آذاننا سوى أنين المكلومين وأصوات الملتاعين. كأنه كان سباقا على الموت، في غزة التي عانى شعبها من وحشية العدوان الإسرائيلي.
وفى أسيوط التي عانت بدورها من عبثية الاستهتار بحياة المصريين. لا أهمية لكون ما أقدمت عليه إسرائيل يعد جريمة مع سبق الإصرار والعمد، وما إذا كان الذي جرى في أسيوط إهمالا فرديا وخطأ جسيما أقرب إلى العمد. أو أن الطائرات كانت أداة القتل عندهم في حين كانت الحافلة المدرسية عربة الموت عندنا، لأن البشر هم الضحية في الحالتين. إلا أنني أزعم أن الجرم في حدث أسيوط أفدح. فالقتل في غزة مارسه عدو باطش لا يستغرب منه ذلك، إلا أن القتل في أسيوط تسببت فيه بيروقراطية يفترض أنها «صديقة»، لكنها مستهترة وعفنة، الأمر الذي دفعها إلى الاصطفاف تلقائيا إلى جانب العدو. حتى أوقعت من القتلى أكثر مما أوقعت الغارات الإسرائيلية على غزة.
أصداء الجريمتين فيها ما هو جدير بالرصد. وكنت قد عرضت أمس لبعض الجوانب الإيجابية التي أمكن استخلاصها من مشهد العدوان على غزة الذي لا يزال مستمرا. لكن تطورا إيجابيا جد في مساء السبت (17/12) وجدت فيه شعاعا من الأمل جديرا بالإثبات. أتحدث عن اجتماع وزراء الخارجية العرب الذي أعرف أن أحدا لم يكن يعول عليه أو ينتظر منه خيرا. ولذلك فحين يخرج منه شعاع ــ مجرد شعاع ــ من الأمل فإن ذلك يعد خبرا يستحق التسجيل والحفاوة.
وسواء كان ذلك بتأثير من أجواء الربيع العربي أو من أصداء الانقضاض الوحشي على غزة، فالشاهد أن وزراء الخارجية العرب وافقوا على اقتراح الأمين العام بإعادة النظر في جميع المبادرات التي أطلقت للتوصل إلى تسوية سلمية مع إسرائيل، بما في ذلك مبادرة قمة بيروت التي تبناها القادة العرب في عام 2002، وتعاملت معها إسرائيل بازدراء شديد في حين تعلق بها بعض أولئك القادة. وهى خطوة إذا ما أخذت على محمل الجد فإنها يفترض أن تؤدى إلى سحب المبادرة، كما ستؤدى إلى إنهاء دور الرباعية الدولية التي أقحمت على مسار التسوية ولم تحقق شيئا يذكر.
وإذ أذكر مجددا بأنني أتحدث عن شعاع من الأمل، إلا أنني لست واثقا من أن دول الربيع العربي يمكن أن تحث الجامعة وبقية الدول العربية على أن تصبح عنصرا ضاغطا لصالح الفلسطينيين، يسهم في فتح معبر رفح ويؤيد التصويت لصالح عضوية دولة فلسطين كمراقب في الأمم المتحدة. كما أنني لست متأكدا مما إذا كان بمقدورها أن تدعم موقف مصر في مطالبتها المرجوة بتعديل الملاحق الأمنية المتعلقة باتفاقية السلام، بما يسمح لها باستعادة سيادتها على سيناء، بعدما ثبت أن غيابها كانت له تداعياته الضارة بأمنها القومي.
مثيرة للاهتمام والدهشة أيضا أصداء كارثة أسيوط، التي تسبب الاستهتار والإهمال فيها في مصرع أكثر من خمسين طفلا قتلوا بعد إطاحة قطار الصعيد بالحافلة التي كانوا يستقلونها في ذهابهم الصباحي إلى مدرستهم، ذلك أننا إذا كنا قد وجدنا شعاعا من الأمل في أصداء الانقضاض الإسرائيلي على غزة، فإنني أزعم أن أصداء حادث أسيوط كانت كارثية إلى حد كبير. ذلك أنني فوجئت حين تابعت تلك الأصداء في وسائل الإعلام بأن عددا غير قليل من مقدمي البرامج التليفزيونية والمعلقين تصيدوا الحدث للتشهير وتصفية الحسابات والمرارات مع رئيس الجمهورية والحكومة.
إذ وقف هؤلاء فوق جثث عشرات التلاميذ لكي يوجهوا أصابع الاتهام وعرائض الادعاء إلى الرئيس الذي تولى منصبه منذ أربعة أشهر وإلى الحكومة التي لم يمض على تشكيلها ثلاثة أشهر، وسمعت إحدى مذيعات التليفزيون وهى تصرخ بصوت عال مطالبة رئيس الجمهورية بأن يرحل هو ورئيس الوزراء، طالما أنهما فشلا أو عجزا خلال تلك الأشهر عن تحمل مسئولية إصلاح الخلل المتراكم في أداء الحكومة منذ ثلاثين أو أربعين عاما.
وأعطت الفرصة كاملة لسيدة ادعت أن ذلك لم يحدث في عهد مبارك (!!) فلا غرقت العبارة ولا أحرق قطار الصعيد ولا تسببت المزلقانات وحوادث الطرق في قتل آلاف المصريين.
وفى حوار تليفزيوني آخر شن أحد المعارضين هجوما شديدا على التصريحات الرسمية التي أشارت إلى أن الإهمال الجسيم الذي تسبب في الكارثة من مخلفات ورواسب النظام السابق. رغم أن تلك بديهية لا يستطيع أن ينكرها منصف. استغربت أيضا لما سمعت وقرأته عن الادعاء باهتمام رئيس الجمهورية والحكومة بما حدث في غزة، وتقصيرهم في الاهتمام بكارثة أسيوط. حتى قال أكثر من واحد إن رئيس الجمهورية كان متحمسا ومنفعلا عندما تحدث عن غزة.
في حين أنه كان هادئا وقليل الانفعال إزاء ما حدث في أسيوط (!) وهو خيط التقطه آخرون لكي يؤيدوا مزاعم الادعاء بأن الحكومة والنظام الجديد في مصر مشغولان بحماس في غزة بأكثر من انشغالهم بمصالح الشعب المصري.. إلى غير ذلك من الأصداء السمجة التي حولت الكارثة التي هزت مشاعر المصريين إلى فرصة للكيد والتشهير والاغتيال الأدبي والسياسي.
كانت تلك فجيعة ثانية، شممت فيها رائحة الانحياز إلى النظام السابق المسكونة بالحرص على إعفائه من المسئولية عن انهيار الخدمات وشيوع الفساد في البلد. كما وجدت فيها انصرافا مذهلا عن قضية تدهور الخدمات التي تهم الجماهير، واهتماما بشيء واحد هو محاكمة الحكومة والتأكيد على إدانتها لإسقاطها وذلك سلوك مستهجن وطنيا وأخلاقيا ومهنيا أيضا. الأمر الذي يعمق من الشعور بالحزن والفجيعة.