لماذا تهدد مصر بالحرب في ليبيا وليس إثيوبيا؟.. هذا السؤال الذي صار مطروحا في وسائل الإعلام التقليدية ووسائل التواصل الاجتماعي بعد تصريحات السيسي الأخيرة لا يحتاج للإجابة، بقدر ما يحتاج للتفنيد، لأنه غير منطقي ابتداء!.
لم تعد الحرب في غالب الأحيان منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية أسلوبا فاعلا لحل الأزمات، بل إن أقوى دولة في العالم لم تتمكن من تحقيق أهدافها عبر الحروب، سواء كان ذلك في كوبا أو فيتنام أو أفغانستان، وأخيرا وليس آخرا في العراق. وحتى سقوط الاتحاد السوفييتي العدو الأول للولايات المتحدة لم يحدث عبر الحرب، بل لأسباب ذاتية أكثر من كونها خارجية.
وإذا كانت أقوى دولة في العالم تدرك ذلك، وباتت تسعى منذ بداية التسعينات للتركيز أكثر على «القوة الناعمة» لتحقيق أهدافها مع لجوء محدود للقوة العسكرية، فكيف بالدول الأخرى؟
نستدرك هنا بتفريق ضروري بين الحرب والقوة، لأن كل دولة بحاجة للقوة العسكرية في عالم اليوم للحفاظ على مصالحها، ولمنع الحروب ضدها، فالقوة هنا هي لمنع الحرب أكثر منها أداة للحرب نفسها.
لماذا على مصر أن تتجنب الحرب؟
ثمة أسباب كثيرة يجب أن تمنع مصر من التفكير بخيار الحرب، سواء في ليبيا أو إثيوبيا.
أول هذه الأسباب هي أن الحروب كما ذكرنا آنفا لا يمكن أن تمثل حلا لأزمات مصر. لا يوجد أي سيناريو مبني على الحسابات السياسية والعسكرية يتوقع أن تخوض مصر حربا في ليبيا أو إثيوبيا «كنزهة» تحقق من خلالها أهدافها ومصالحها، وتنتهي بهذه البساطة، وكأن الطرف الثاني للحرب سيبقى مكتوف الأيدي وعاجزا عن أي رد.
أما السبب الثاني، فهو يتعلق بالكلفة الاقتصادية الهائلة للحروب، خصوصا مع تطور آلة الحرب عالميا، وزيادة تكلفة تحريكها وثمن شرائها، لذلك فإن أي حرب تخوضها مصر ستثقل الاقتصاد المصري بتكاليف هائلة، وستمنع إمكانية إصلاح الاقتصاد المتهالك أصلا، وستوقف أي أمل للتنمية في بلد يعتبر في ذيل قائمة دول العالم على معظم المؤشرات الدولية للاقتصاد والتنمية.
ثالث الأسباب التي ستمنع تفكير مصر بالحرب هي الكلفة البشرية. ففي ظل التطور الهائل للقدرة التدميرية للأسلحة، وسلاح الطيران خصوصا، ستكون الخسائر بالأرواح لجميع الأطراف كبيرة. ولا يمكن لأحد أن يضمن أن تبقى الحرب على أراضي ليبيا أو إثيوبيا، بل ستعمد الأطراف الأخرى لنقل المعركة إلى الأراضي المصرية، وهو ما ينذر بحرب شاملة، سيدفع ثمنها الجميع، والشعوب أولا، ولكنها أيضا قد تؤدي لانهيار النظام نفسه إذا ارتفعت كلفة الحرب كثيرا.
يضاف إلى ذلك سبب خارجي بالغ الأهمية، وهو أن الولايات المتحدة ستمنع أي حرب بين حلفائها، ومن المعلوم أن مصر وإثيوبيا وتركيا كلها دول حليفة لواشنطن، بغض النظر عن الخلافات التي تظهر بينها وبين هذه الدول من وقت لآخر، ولكنها تبقى في النهاية دولا حليفة، والحرب بينها ليست في صالح واشنطن.
لهذه الأسباب نعتقد أن مصر لن تقدم على خطوة الحرب خارج أراضيها، وأن تهديدات رئيس الانقلاب الأخيرة بخصوص ليبيا وتلميحات بعض الشخصيات المحسوبة على النظام لحرب ضد إثيوبيا هي مجرد رسائل للاستهلاك الداخلي والخارجي، ولعل نظرة على الإعلام المصري المحكوم بقبضة السلطة تعطينا فكرة عن ذلك، حيث تكاد تخلو مواقع الصحف الرسمية اليوم من التجييش الإعلامي للحرب، فيما تظهر تصريحات وزير الخارجية سامح شكري التي تؤكد أن بلاده تسعى لحل أزمة سد النهضة عبر مجلس الأمن.
كيف تتجنب مصر الحرب؟
إذا كان سؤال الحرب غير ممكن كما نعتقد، فإن السؤال الأهم هو كيف تتجنب مصر الحرب وتحقق مصالحها في نفس الوقت؟
تحقق الدول مصالحها عبر قوة الردع من جهة، ومن خلال استخدام «القوة الناعمة» مع خصومها وحلفائها من جهة أخرى. ولكن مصر للأسف فقدت هذه القوة منذ عهد مبارك، ولم تعد تمتلك تأثيرا ونفوذا حقيقيا لا في إفريقيا ولا في غيرها، باستثناء الدور الذي تروج أنها تلعبه في القضية الفلسطينية باعتبارها الدولة العربية الأكبر، وبسبب امتلاكها حدود جغرافية مع قطاع غزة ومع الاحتلال.
لا بديل أمام مصر سوى تفعيل علاقاتها الإفريقية في محاولة لإيجاد حل سلمي مع إثيوبيا، ولكن هذا يحتاج إلى سياسة فاعلة وتطوير الدبلوماسية باتجاه دول القارة العربية وغير العربية. يتطلب ذلك أيضا رفع وتيرة التنسيق مع السودان بخصوص قضية سد النهضة، وتقديم “حوافز” تشجع إثيوبيا على تقديم تسويات مرضية لمصر، مع ضرورة بناء رأي عالمي يساعد في استصدار قرارات من مجلس الأمن لصالح مصر.
أما على صعيد الأزمة في ليبيا، فإن مصر لا يمكن أن تمتلك نفوذا وهي تراهن على طرف خاسر، ومرفوض من قطاع واسع من الشعب الليبي، ومتهم بارتكاب جرائم حرب، ولهذا فإن ما سمي «مبادرة» القاهرة لا يمكن أن تمثل حلا يعطي دورا أكبر لمصر في هذه الأزمة، لأنها مبادرة «المهزومين» في ليبيا، وإذا كانت مصر تريد فعلا حماية مصالحها، فلا حل أمامها سوى بالتنسيق مع الجزائر والمغرب لفتح حوار جدي يحترم مرجعة برلين والصخيرات، وإقامة علاقة مع حكومة الوفاق المعترف بها دوليا وإقناعها بأن القاهرة لا تعاديها.
تحتاج هذه السياسة لدبلوماسية نشطة، ولرؤية استراتيجية واسعة تعتمد على مصالح مصر القومية وليس على خلافات النظام مع جزء من شعبه كما هو حال السياسة الخارجية المصرية الان، وتحتاج أيضا لاستقلالية تامة في القرار المصري، وهذه اشتراطات للأسف غير متوفرة حاليا في مصر.
لا تستطيع مصر أن تخوض حربا لأسباب داخلية وأخرى موضوعية، وهي غير مؤهلة للأسف لتنبي دبلوماسية قوية تحل أزماتها، وليس أمامها سوى تغيير جذري في سياستها الخارجية، يعتمد على حسابات المصالح القومية، لا على الصراعات مع الداخل.