تصريحان لافتان خلال الأسبوع الماضي من تركيا ومصر ربما يؤشران لتغير المزاج السياسي للدولتين، حول العلاقات المتوترة منذ الانقلاب العسكري الذي أطاح بالرئيس المصري السابق «محمد مرسي».
التصريح الأول على لسان وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو، الخميس الماضي، قال فيه إن الطريقة الأكثر عقلانية لعودة العلاقات التركية المصرية هي بالحوار والتعاون مع تركيا بدلا من تجاهلها، مضيفا أنه أجرى اتصالات مختلفة مع مصر في السابق بتفويض من الرئيس أردوغان، ولكن التوتر عاد بسبب تطورات الأزمة في ليبيا.
وفي اليوم ذاته، قال الأمين العام المساعد للجامعة العربية حسام زكي إن اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين تركيا وليبيا شرعية، لأنها عقدت مع حكومة الوفاق المعترف بها من قبل الأمم المتحدة ومن الجامعة العربية نفسها، مضيفا أن هناك «نقطة فنية قانونية لها بعد سياسي مهم (وهي أن) الجانب التركي دخل الأراضي الليبية بناء على اتفاق مع حكومة الوفاق».
صحيح أن زكي حاول التخفيف من تصريحاته في لقاء لاحق مع قناة العربية، إلا أن هذا لا يقلل من أهمية هذه التصريحات، ويمكن فهم التراجع بأنه رغبة بالتقليل من ردود الفعل على تصريحاته الأولى، نظرا لأهمية موقع حسام زكي، وارتباطه وتعبيره بشكل غير مباشر عن السياسة الخارجية المصرية.
وإذا كانت الحرب أولها كلام، فإن السلم والتفاهمات السياسية أولها كلام أيضا
توتر وعلاقات مركبة
لا يمكن اختصار العلاقات التركية المصرية بالتوتر القائم منذ الانقلاب العسكري في مصر، وموقف تركيا الرافض من هذا الانقلاب، فالعلاقات بين الدول مركبة ولا تسير دائما باتجاه واحد.
ثمة عوامل للتوتر بلا شك، أهمها موقف تركيا القوي من الانقلاب وتبعاته، وخصوصا حملات القمع والاعتقالات التي طالت عشرات الآلاف من المعارضين المصريين، وما تبع ذلك من استضافة تركيا لشخصيات معارضة مصرية، إضافة لحساسية مصر تجاه العلاقات بين تركيا وبين قوى إسلامية عربية ترى مصر أنها عدوها الأول، وفوق كل ذلك حالة الاستقطاب الحاد في المنطقة، بين محور يضم مصر والإمارات والسعودية بشكل أساسي، وبين محور يضم تركيا والقوى التي تدعمها في المنطقة العربية، سواء منها القوى التي تشارك في حكم بعض الدول، أو تلك التي تدور في فلك المعارضة.
ومع ذلك فقد ظلت العلاقات السياسية والتجارية قائمة بين البلدين، وفي ظل التوتر الظاهر على السطح، والتراشق الإعلامي، فتحت قنوات سياسية قبل سنوات، دون مستوى الرئاسة في البلدين، لأن الرئيس التركي يرفض الحوار مع رئيس الانقلاب في ظل عدم حل الأزمة السياسية واستمرار الاعتقالات وحالة القمع الشديدة، وهو ما يمثل عائقا “أخلاقيا” بحسب وجهة النظر التركية أمام فتح حوار على المستوى الرئاسي، فيما فتحت القنوات على مستوى وزراء الخارجية كما يبدو من تصريحات أوغلو المشار لها سابقا.
وعلى الصعيد الاقتصادي، استمرت العلاقات التجارية بين أنقرة والقاهرة رغم كل التوتر، بل إنها تصاعدت ولو بنسبة بسيطة خلال السنوات الماضية، حيث ارتفع التبادل التجاري بين البلدين من 4.7 مليار دولار في العام 2014 ليصل إلى 5.2 مليار دولار في العام 2018.
ليبيا.. العقدة والحل؟
إذا كانت الأزمة الليبية وتداعياتها متمثلة باتفاق الحدود البحرية بين أنقرة وطرابلس والدعم العسكري التركي لحكومة ليبيا هي العقدة التي أوقفت الحوار المصري التركي كما يفهم من تصريحات أوغلو، فهل يمكن أن تكون هي الحل أيضا؟
ثمة معلومات ومؤشرات تدفع للاعتقاد بأن ليبيا قد تكون فعلا بوابة لحلحلة في العلاقات بين أنقرة والقاهرة، خصوصا بعد التطورات الأخيرة التي أدت لانتصار حكومة الوفاق بالدعم التركي على مليشيات حفتر المدعومة من مصر ومحورها الخليجي.
الانتصارات العسكرية الأخيرة أدت إلى نشوء واقع سياسي جديد، يدفع باتجاه فتح حوار تركي مصري، يحتاجه الطرفان.
فمن جهة، فإن تركيا رسمت أمرا واقعا بتوقيع الاتفاقية البحرية التي تؤكد أنه ينسجم مع القانون الدولي ومعاهدات الأمم المتحدة، وبسيطرة حكومة الوفاق المدعومة منها على غرب ليبيا بشكل حاسم، وإنهاء مغامرة حفتر العسكرية، ولكنها في نفس الوقت لا تستطيع أن تتوسع باتجاه الشرق، لأن هذا يعني الصدام مع روسيا ومصر وفرنسا، وغالبا مع موقف أمريكي لن يرضى بأن تصبح تركيا هي اللاعب الدولي الأقوى والوحيد في ليبيا، ولذلك فهي بحاجة لتسويات تكسب من الواقع الجديد الذي رسمته قانونيا وعسكريا.
ومن الناحية المصرية، فإن الواقع الجديد أكد لها فشل الرهان على حفتر، وجعلها تبحث عن بديل عسكري له، مع إتاحة دور أكبر لرئيس البرلمان عقيلة صالح المدعوم قبليا ومن قبل جزء من البرلمانيين، بحسب مصادر مصرية تحدثت سابقا لـ«عربي21».
وفي إطار تعاملها مع الواقع الجديد، لا بد أن مصر وصلت لقناعة أن الحل العسكري لسيطرة حلفائها على كامل ليبيا بات أمرا مستحيلا، يرافق ذلك أزمة في الشرعية، بسبب احتفاظ حكومة الوفاق بالرمزية الشرعية، ما يعني أن مصر أمام ثلاث خيارات: إما دعم التقسيم وهو أمر مرفوض دوليا بسبب تبعاته الهائلة خصوصا على أوروبا القريبة من ليبيا، أو التدخل العسكري المباشر من الجيش المصري وهذا أمر شبه مستحيل وذو تبعات مكلفة جدا لا تقدر عليها مصر خصوصا في ظل أزماتها الاقتصادية والسياسية الداخلية، أو اللجوء لتسويات، وهي تسويات تدرك أنها لا يمكن أن تتم إلا عبر البوابة التركية.
يضاف إلى ذلك أن تقدير مؤسسات الدولة المصرية يرى أن اتفاقية الحدود البحرية بين تركيا وليبيا حفظ للحقوق المصرية في شرق المتوسط، وهو تقدير رفض السيسي إعلانه رسميا بحسب مصادر «عربي21»، حتى لا يغضب حلفاءه من جهة، ولأن معركة غرب ليبيا لم تكن قد حسمت بعد.
وبحسب مصادر «عربي21»، فإن قنوات سياسية بدأت تفتح بين أنقرة والقاهرة بشكل تدريجي وهادئ، وقد يرافقها تهدئة إعلامية في الفترة القادمة، ما قد يعني تخفيف الهجوم على تركيا في الإعلام المصري المحكوم تماما بقبضة السلطة، واضطرار الإعلام المصري المعارض في إسطنبول بالتالي لبعض التهدئة في خطابه.
عقبات وسيناريوهات
ستواجه احتمالات الوصول إلى تسويات بين تركيا ومصر بعدة عقبات ذاتية، وأخرى خارجية.
أهم العقبات على الصعيد الخارجي، معارضة حلفاء مصر في أبو ظبي والرياض لمثل هذه التسويات، ولعل هذا ما يفسر استباق الإعلام والشخصيات الإماراتية والسعودية الأمر بحملة لتشجيع وترويج قدرة مصر على حسم الصراع في ليبيا عسكريا، ولكن هذا التشجيع لن يغير بسهولة من «عقيدة» الجيش المصري بعدم التدخل خارجيا.
أما على صعيد الدولتين، فسيكون حجم التنازلات المقدمة من كل منهما عاملا أساسيا في تحديد مستقبل العلاقة، إذ إن تسوية شاملة أو متوسطة تتطلب أن لا تقتصر التفاهمات على الأزمة الليبية، وسيكون من ضمنها في أقصى حالات النجاح تخفيف حالة القمع في مصر والإفراج عن المعتقلين السياسيين، وتغيير وضبط خطاب المعارضة المصرية في تركيا، وتعليق التراشق الإعلامي بين تركيا وبين محور القاهرة-أبو ظبي-الرياض في محاولة لكبح المعارضة الإماراتية السعودية لمثل هذه التسويات.
من الصعب الحكم على مآلات الأمور في ظل تعقيد الوضع الإقليمي وحجم الاستقطاب الرهيب بين محوري تركيا والقاهرة، ومع ذلك فإن حجم الاشتباك بين الملفات في المنطقة يدفعنا للاعتقاد بإن تسوية تركية مصرية ممكنة
ولكنها لن تكون شاملة، بل ستقتصر على الملف الليبي، وزيادة الحوار على المستوى الوزاري، مع تنفيس شكلي لقضية المعتقلين في مصر وضبط الخطاب الإعلامي في كل من القاهرة وإسطنبول.