إذا كنت ممن يقرؤون الجملة الأولى من المقالات فالسيناريو الأخطر هو انهيار الدولة، وعودة المجتمعات لعصر «ما قبل الدولة»، ولكنه سيناريو يمكن تجنبه لو التزم الناس بإجراءات منع العدوي والتباعد الاجتماعي.
مات فقط اليوم الإثنين الثلاثين من آذار 2020 حوالي 18500 إنسان من الجوع في العالم، فيما مات هذا العام حتى الآن أكثر من 119 ألف إنسان بسبب الإنفلونزا الموسمية، وأكثر من 412 ألف بسبب الإيدز، وأكثر من 613 ألف بسبب شرب الكحول، وأكثر من مليون و226 ألف بسبب التدخين، وأكثر من 331 ألف قتلوا في حوادث الطرق حتى الآن هذه السنة في أنحاء العالم.
الأرقام أعلاه من موقع وورد ميتر «مقياس العالم»، وهو مصدر يعتمد على مصادر وطنية وعالمية لحظة بلحظة.
عند قراءة مثل هذه الأرقام يتساءل المرء وحق له أن يتساءل، فلماذا كل هذا الذعر في العالم بسبب كورونا الذي لم يتسبب خلال أربع شهور إلا حوالي 35 ألف إنسان حول العالم؟! البعض سيجد في الأرقام أعلاه دليلا قاطعا على نظرية المؤامرة، وأن الفيروس هو من صنع دولة ما أو مجموعة دول، قاموا بتسريبه للبشر لأسباب مختلفة، بعضها يتعلق بتوفير الإنفاق على المرضى والعجزة (نظرية داروين البقاء للأقوى) حيث أن المرض سيقتلهم ويوفر على الدولة نفقات علاجهم ورعايتهم، وبعضها يتعلق باستفادة دولة ما على حساب دول أخرى، وغيرها من الاحتمالات.
لكن ثمة تفسير بعيد عن الاحتمالات التآمرية التي نعتقد أنها غير صحيحة، وربما سيكون لنا عودة لنقاشها بالتفصيل (إذا لم يقتلنا الفيروس!)، وهذا التفسير ينطلق من تداعيات انتشار فيروس كورونا على بنية الدولة والمجتمع كما بتنا نعرفها منذ القرن التاسع عشر، وهي البنية التي أسست على أن الدولة هي من تحتكر تنظيم حياة الناس -وفق قوانين ودستور طبعا- ولكنها في نهاية الأمر هي من تقود المجتمعات وتحتكر التنظيم وسن القوانين والتشريع والأهم أنها تحتكر العنف وتطبيق القانون.
ما تخشاه الحكومات ولا تعلنه هو أن انتشار المرض بطريقة أفقية في أسوأ الأحوال قد تصل لنسبة 60-80 بالمئة من البشر، سيؤدي بلا شك إلى انفجارات اجتماعية قد تؤدي لانهيار الدولة تلقائيا. لنتخيل السيناريو الأسوأ وهو إصابة هذه النسبة بالمرض، ولتسهيل الأمر دعونا نأخذ أي بلد يعيش فيه 100 مليون مواطن، وفي هذه الحالة سيصاب 60 مليون إلى 80 مليون بالفيروس. سيحتاج منهم حسب النسب المعلنة حتى اليوم 10 بالمئة للدخول للمستشفيات وهو ما يعني أن 6-8 مليون سيحتاجون المستشفى في فترة واحدة محدودة تمتد لحوالي 3 أشهر، وبالتأكيد فإن هذه الأعداد لن تستطيع أي دولة في العالم أن تتعامل معه، لأنه لا يمكن لأي نظام طبي مهما كان قويا أن يستوعب هذا السيل الجارف من المرضى في وقت واحد.
إذا حصل هذا السيناريو، سيلجأ الناس لأساليب «ما قبل الدولة» للحصول على حقهم بالعلاج، وسيمارس العنف ضد الأطباء والممرضين الطواقم الطبية، وسيخشى هؤلاء من ممارسة عملهم، وستعجز الشرطة والأمن عن إعادة الأمور إلى نصابها، وسيختل الأساس الأهم لتأسيس الدولة الحديثة وهو «احتكار العنف»، لأن الدولة ستصبح عاجزة عن أداء واجباتها، وهذا السيناريو سيرفع نسبة من يموتون بالمرض التي تتراوح الآن بين 2 و 10 بالمائة إلى أضعاف لا يعلمها إلا الله.
تخشى الحكومات من إعلان هذا السيناريو لمنع إثارة الذعر، وهي محقة في ذلك، ولكنها في نفس الوقت تضغط لتطبيق التعليمات والإجراءات التي لا يستطيع الكثيرون تفهم أسبابها. بعض التداعيات بدأت بالفعل، فقد أعلنت بريطانيا اليوم مثلا أن الشرطة لن تكون قادرة على متابعة بعض الجرائم الصغيرة بسبب انتشار الفيروس، فيما اضطرت بعض الدول لاستخدام الجيش في تطبيق التعليمات، وقام بعض المواطنين في الدول التي يسمح فيها بترخيص السلاح بالتهافت على شراء الأسلحة لحماية عائلاتهم إذا وصلت الأمور للسيناريو الأسوأ لا قدر الله.
هذا السيناريو الذي تخشاه الحكومات يجب أن نخشاه نحن أيضا، ففي ظل الواقع الحالي فإنه لا يوجد نظام بديل للدولة الحديثة لإدارة حياة الناس، ولم يعد البشر جاهزين للعودة لمرحلة وأعراف وآليات سابقة على تأسيس الدولة الحديثة.
السيناريو الأسوأ يمكن تجنبه بالالتزام قدر الإمكان بالإجراءات التي تعلنها الحكومات في كل بلد، والابتعاد عن الإغراق في تفاصيل «المؤامرة» لدرجة تمنع التركيز على محاولة منع انتشار الفيروس، والامتناع عن التصرف وكأن عدم الاستجابة للقرارات الحكومية الآن هو تمرد ورجولة، فالتمرد هو برفض الظلم والفساد والاستبداد وليس برفض الإجراءات التي تحمي الناس والبلاد، والناس يحتاجون في الأزمات للثقة بالحكومات حتى لو كانت لا تستحق الثقة!